غزّة تحتلّ العالم

سميرة المسالمة

حرير- أزاحت الحرب المعلنة من إسرائيل على غزّة الستار عن الموقف الغربي الموحّد من القضية الفلسطينية، ما يبدّد أي آمال عربية يمكن البناء عليها من هذا التصريح أو ذاك، من أي مسؤول أميركي أو أوروبي، بشأن حلول ممكنة لتنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية عموماً، وبحلّ الدولتين تحديداً، أو حتى تخفيف سياسة العنف الإسرائيلي في عموم الأراضي المحتلة ضد الفلسطينيين، وفي جولة زعماء الغرب الذين سارعوا إلى التوافد إلى إسرائيل للوقوف إلى جانبها، وكأن غزّة احتلّت العالم، يمكن ملاحظة تأكيدهم المتكرّر على نقاط ثلاث أساسية: الأولى، إن هذا الغرب برمّته مع إسرائيل في حربها على غزّة. ومن المفهوم والمعلن أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعها معظم أوروبا، أمدّت إسرائيل بكل مستلزمات حربها، بل ما يفيض عن حربها ضد غزّة، ليشمل الدول المجاورة لها، إن شاءت، وفي الوقت الذي تحدّده، وتحت الذريعة التي تراها مناسبة، مع امتلاكها الرخصة الدولية الصالحة لكل زمان ومكان على ما يبدو.

والترسانة المسلحة التي تعوم عليها دولة الاحتلال ليست للتخزين أو لمجاملة المصنّعين، وشراء حمايتهم، كحال أنظمة الدول العربية التي تدفع مئات الملايين سنوياً ثمناً لأسلحةٍ معظمها صور على ورق، فإسرائيل عمدت، على الدوام، إلى وضع مخزونها الحربي في مواجهة من تعتبرهم أعداءها من الفلسطينيين، أو غيرهم، سواء كانوا من المُدرجين في لائحة الإرهابيين حسب زعمها، أو منظمّات مدنية أو مسلحة، أو من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ.

والنقطة الثانية في كل التصريحات الغربية تأكيد المسؤولين رغبتهم في العمل على خفض العنف أو تجنّب تصعيده، وهنا (لا يتناقض الغرب مع نفسه)، وانما يوجّه رسالة واضحة إلى الأنظمة العربية أن نزع فتيل الحرب مُمكن، ولكن ليس المقصود به السعي إلى حلولٍ بين الطرفين، أي حركة حماس وإسرائيل، بل العمل على تنفيذ مطالب إسرائيل التي تريدها من خلال حربها، وهي إخلاء غزّة وإنهاء “حماس”، ولا ضير من قولها صراحة مسح غزّة وناسها من الوجود. ولمّا كانت الحرب تحتاج طرفين، فإن وأد الحركة يتطلب تسويةً بين الطرفين، وهذا ما ظلت ترفضه إسرائيل سبعة عقود، أو إنهاء أحدهما، وهذه مهمة العرب التي يطلبها الغرب اليوم، أي إنهاء الطرف الفلسطيني لصالح الطرف الإسرائيلي، لكن الطرف، في هذه المرة، ليس “حماس” فقط، بل كل غزّة، لأن غزّة لم تكن يوماً هي “حماس”، وهذا تعرفه إسرائيل والغرب جيداً، و”حماس” ليست كل غزّة. أي أن المطلب الغربي هو تجنيب إسرائيل خسائر الحرب ومنحها مكاسبها، فهذا العالم المرتبك موصول “كوردور” سلامُه بزوال غزّة، وإعادة رسم خريطة جديدة لدول المنطقة التي لن تستثني أي حدودٍ من الاختراق، من مصر إلى الأردن وسورية ولبنان، وبالتأكيد لحساب مكاسب جديدة لإسرائيل التوسّعية، والتي إن تجنّبت قتل مزيد من الشعب الفلسطيني في غزّة الملتهبة عليها، فإنها لن تتنازل عن تهجيره.

وفي حسبةٍ سريعةٍ، لن يصعب على الدول التي استوعبت نحو عشرة ملايين سوري، إثر حرب النظام السوري على شعبه، أن تزيد عليهم نحو مليوني فلسطيني، فقد صارت التجربة السورية مقياساً في القصف والتدمير والتهجير. وفي المقابل، الصمت الدولي والتغاضي عن الجرائم أيضاً صارا سياسة عالم بلا معايير. مع وجود نقطة لمصلحة إسرائيل، وهي أنها سابقاً كانت تُنذر السكان لإخلاء المباني قبل قصفها، وهذه رفاهيةٌ لم يعرفها الشعب السوري في حمص وريف دمشق ودرعا وإدلب وحلب، ما يعني أن سياسة القصف الإسرائيلية من دون سابق إنذار مبنية على مقاربة مجرّبة وفعّالة في حصد الضحايا.

النقطة الثالثة، أن الغرب يعتقد أن القيم الإنسانية، الحرية والعدالة والمساواة، تنطبق على مواطنيه فقط، أي كأنها خاصّة بالغرب، وليست قيماً خاضت الشعوب في سبيلها تجارب قاسية ومؤلمة في كل مكان، فكانت وليدةً لتجربة البشرية في كل العالم، ما يعني أن هذه النظرة استعلائية، وقد ترقى لتكون عنصرية.

هكذا يتحدّث زعماء تلك الدول عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يتناسون أن إسرائيل أقيمت بواسطة القوّة، وبفضل دعمهم، وبسبب محاولتهم التغطية على اضطهادهم اليهود في بلدانهم، إذ نشأت معاداة السامية في بلدانهم هم بالذات. كما يتناسون أن تلك الدولة قامت دولة استعمارية، وفقاً للمعايير الإنسانية والقرارات الدولية، أي أن الفلسطينيين هم ضحايا تلك الدولة، وهذا لا ينفي أن سكّان إسرائيل من اليهود هم ضحايا لاسامية أوروبية.

أيضاً، يتناسى هؤلاء الزّعماء في حديثهم عن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها أيضاً، أن الدفاع عن النفس لا يعني إبادة المدنيين وتشريدهم، وأن ما قبل هذه الحرب ملفّ إسرائيل ثقيل بالجرائم ضد الفلسطينيين، وهي كانت المعتدي وليست الضحية، فهي التي تقتُل المدنيين يومياً، وكذلك الصحفيين. ولعلنا لا ننسى جميعاً مشهد قنص الصحافية شيرين أبو عاقلة قبل العدوان الحالي. وهي التي تصادر أراضيهم وتدمر بيوتهم، وتحتلّ حياتهم، وتعتقلهم وتشرّدهم، وها هي تقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم بالجملة في المستشفيات والجوامع والكنائس والأفران وتدمّر عمرانهم، وتحاول دفن مدنهم.

يتناسى هؤلاء أيضاً، في غمرة حديثهم عن الرهائن، أن إسرائيل تعتقل حوالي ثمانية آلاف من الفلسطينيين والعرب، ومنهم منذ عشرات السنين، وأغلبيتهم من دون محاكمة، أو من دون تهمة، وأنها تمارس العقاب الجماعي لإخضاع الفلسطينيين، وفرض إملاءاتها عليهم.

يفوّت هؤلاء الزعماء أن إسرائيل قتلت، حتى كتابة هذه السطور، أكثر من أربعة آلاف من الفلسطينيين، نحو نصفهم من الأطفال، وجرحت ما يزيد عن 13,5 ألفاً وشردت مليوناً من فلسطينيي غزّة، أي نصف الفلسطينيين، الذين كانت إسرائيل تفرض عليهم حصاراً مشدّداً منذ 16 عاماً. كما لا يأتي هؤلاء على حقيقة رفض إسرائيل الانصياع للقرارات الدولية، وضربها عرض الحائط اتفاقيات أوسلو التي وقعتها في البيت الأبيض قبل ثلاثة عقود، رغم ما تشتمل عليه هذه الاتفاقيات من إجحاف بالنسبة لحقوق الفلسطينيين. ويبدو أنها بقرار مسبق لهذه الحرب، تنفّذ مخطّطها لإعادة ترسيم حدود ليس فقط الفلسطينيين داخل أراضيهم، وفي سجنهم الكبير الذي تديره السلطة الوطنية الفلسطينية، ولكن أيضاً مع الدول العربية المجاورة، كبيرها وصغيرها!

مقالات ذات صلة