“..يوصيني ابي بالكويت خيرا..”

يوصيني أبي دائما بالكويتيين خيرا, ويتحدث عن الخير الذي عرفه منهم وعنهم, ويروي لي قصته معهم دائما, وكلما سمعتها منه أشعر انني اسمعها أول مره, لأنها تخرج من القلب لشدة أثرها عليه رغم مرور 50 عاما على الحادثة التي كتبها أبي في كتاب مذكراته, انقلها بكلماته:

“…. كانت رغبتي هي دراسة الهندسة، وفي سبيل ذلـك تقـدمت لجامعـات كثيرة وأمضيت عام ١٩٦٨سعيًا وراء ذلك، غير أني لم أحصل على قبول. لا أذكر ما الذي جعلني أفكر في الدراسة في الباكستان ! فتوجهت إليها نهاية عام ١٩٦٨م عن طريق العراق ، ثم بحرا في باخرة مجهزة لنقل البـضائع إلى كراتشي، في رحلة بحرية مدتها ثمانية أيام بلياليها، فكانت بالنـسبة لي تجربة فريدة من نوعها خّلفت ذكريات خاصة لاُتنسى.

سافرت بـرًا بالحافلـة مـن إربـد قاصـدًا البـصرة في العـراق، وكانت المرة الأولى التي أُغادر فيهـا الأردن, وكان عمري 20 عاما. كنـت أحمـل معـي متاعـًا ثقيلا في حقيبة كبيرة، وكنت أعتبر هـذا الـسفر تحـديا لي. فهـل أسـتطيع الوصول إلى مرادي مع الحفاظ على أمتعتـي ونقـودي؟ ولـذلك كانـت درجة التيقظ والحرص عالية ًجدا.

وللمزيد من التعب والحيرة تبين لي في منتصف الطريق أن الحافلـة التي أركبها متوجهة من إربد إلى الكويـت، مـرورًا ببغـداد ولكنها لا تدخل البصرة التي كنت أقصدها، بل تمرقريبًا منهـا؛ لـذلك طلـب مني السائق النزول من الحافلـة عـلى المثلـث الـذي يـربط طريـق بغـداد-الكويـت الرئيسي بمدينة البصرة. وفعلا نزلت مع حقيبتي التي تكبرني حجًما ووزنًا. وكانت الحـيرة تملؤني، واللعنات الـصامتة عـلى سـائق الحافلـة -الـذي لم يوصـلني إلى البصرة- تملأ صدري، كان الوقت قبل الغروب ولم أكن أعرف في حينهـا أين أنا ولا الاتجاهات الأربعة ، لولا بقايا قطعة من حديد صدئة، بعض ماكتب عليها قد أكل عليه الدهر وشرب، تشير إلى مدينة البصرة.

كانت لحظات رهيبة بالنسبة لي استذكرت فيها والـدتي، ودعاءهـا الدائم لي ولإخواني بالستر والتوفيق، وقلـت في نفـسي يـا االله لطفك. لم يقطـع علي شرودي وحبل همومي إلا وقوف سيارة خاصة بيـضاء، مـن نـوع بيجو أمامي، قال لي سائقها: أين تريد؟ قلت: البصرة. فقال: تفـضل. كدت أطير من الفرح، وأنا بين مصدق ومكذب. ساعدني الرجـل في حمل الحقيبة ووضعها في الـسيارة، وركبـت معـه وانطلقنـا إلى البـصرة، ولكن في واقع الحال إلى جهة مجهولة بالنـسبة لي. فلـذلك كانـت تنتابني وساوس وأوهام لا أدري مصدرها، وكانت تنقطع هذه الأفكار بين الفينة والأخرى؛ لأرد عـلى أسـئلة الـسائق: مـن أيـن أنـت؟ وأيـن تقصد؟ وما اسمك؟ وكان لا يزيد على الترحيب بعد كل جواب. و من الأمور التي كانت تشغل بالي في الطريق، هـل عـلي أن أعطيـه أجرًا على جميل صنيعه أم لا؟ هل هو فاعل خير أم سائق أجـرة؟ ورغـم أن الأميال التي قطعناها كانت قليلة إلا أنني شعرت أنهـا طويلـة جـدًا. فلما بدأ عمران البصرة يظهر في الأفق بدأت أرتاح شيئا فشيئاً. لملمت ما بقي لدي من شجاعة وسألته: من أين أنت؟ فقـال: مـن الكويت وأقصد زيارة البصرة. وكان هذا في صيف عام ١٩٦٨.

دخلنا البصرة، وعرف أنني أريـد فنـدقًا أسـكن فيـه حتـى موعـد الباخرة، فأرشـدني إلى فنـدق، وحمـل معـي الحقيبتـين، وقابـل مـسؤول الفندق وأوصاه بي خيرًا، ثم أراد الانصراف فرجوته أن أقـدم لـه أجـر صـنيعه الكريم، فابتسم، وقال سأزورك غدا إن شـاء االله في الفنـدق، ونتفـاهم، ثم غادر وتركني في حيرة جديدة، على ماذا نتفاهم؟!

دخلت غرفتي، وتنفست الصعداء، وحمدت االله أن وصـلت سـالمًا بحقيبتي ونقودي لم يمسسهما سوء. ودخلت في نوم عميق، لم أصح منـه إلا في ساعة متأخرة لأصلي المغرب والعشاء جمع تأخير.

جاء الرجل في الصباح واطمأن علي ، وتجاذبنـا أطـراف الحـديث، و عرف أنني متوجه للدراسة في الباكـستان عـن طريـق البحـر مـع شركـة “كريماكنزي” التـي تنطلـق مـن البـصرة، وتحمـل مـع البـضائع بعـض الركاب، الذين يقصدونها؛ لرخص أجورها، وكنت واحدًا منهم. كنت أستجمع شجاعتي لشدة حيائي منه للطفه ووقاره عنـدما كنـت أريد أن أسأله، فقلت له: بالأمس أردتُ أن أقدم لك الأُجرة عـلى صـنيعك الجميل فأجلتَ ذلك إلى اليوم. فضحك، وقال: ذات يوم كنت مع زوجتـي وبناتي في سيارتي على طريق بغداد – الكويت، وكان الوقت ليَلا، وقـدّر الله أن تعطلت السيارة وصرنا في ضيق شديد. وكنـت أجتهـد بالطلـب مـن السيارات التي تمر أن تساعدنا ولا مجيب، وبعد انتظار طويل وحيرة أطـول، و اذا بسيارة خاصة صغيرة، يستقلها مجموعة من الشباب الأردنيين، تستجيب للإشارة وتقف أمامي، وبعد أن عرفوا الأمر، قاموا بإصـلاح سـيارتي. ثـم تابعت واهلي المسير باتجاه الكويت، وكان هؤلاء الشباب يسيرون خلفنـا طوال الطريق زيـادة في الاطمئنان علينا، حتى وصلنا الكويت، شكرتهم شكرًا جـزيلا، وحاولـت مكافأتهم ، فرفضوا، وقالوا: هذا أقل الواجب. ومنذ ذلك الحين قطعت على نفسي عهدًا أن أقدم مـا أسـتطيع مـن مساعدة لمن أعـرف ولمـن لا أعـرف، لعلّي أسـدد بعـض جميـل هـؤلاء الشباب الكرام. وهذا أقل الواجب.

لازالـت كلماتـه ـ جـزاه االله خيرًاــ تـرن في أذني إذ أكمل القـول ناصحًا لي: “أنت في بداية حياتك، وأنـت الآن بعيـٌد عـن رقابـة والـديك، فتـذكر أن الله يـراك في كـل مكـان. أنـصحك أن تلتـزم شرعـه، و ان تختار الصحبة الصالحة، و الزم دراستك واجتهد ما وسعك الاجتهاد واسـتفد من وقتك، فالوقت هو الحياه، و عُد لوالديك بعلم نـافع، تكسب المزيد من رضاهم، فرضاهم من رضا الله”.

كلمات من نور، ساقها االله على لسان هذا الرجل العظيم المجهـول بالنسبة لي، فكانت مطابقـة تمامـا لكلـمات أقـرب النـاس لي، وأكثـرهم حرصا على مصلحتي وحباً لي. كم أتمنى لو عرفته أكثر لإكرامه، ولكـن مـا ضرّهُ أني لا أعرفـه ؟ مـا دام عـلام الغيـوب يعرفه وسيجزيه على صنيعه. فجزاه االله عني خير الجزاء, وأكرمه حيا وميتـاً عـلى جميـل صـنيعه و حسن خلقه, فلست أملك له غير الدعاء، والاقتـداء بـصنيعه . فعمـل الخير مع من تعـرف ومـن لا تعـرف، ورضـا الوالـدين وطـاعتهما مـن موجبات رحمة الله وتوفيقه.

 

د محمد عبدالحميد القضاة

مقالات ذات صلة