
الفضة.. وقود الثورة الصناعية الجديدة
موسى الساكت
حرير- لم يعد ما نشهده اليوم في سوق الفضة مجرد موجة مضاربات عابرة أو فقاعة سعرية مؤقتة، بل هو انعكاس عميق لتحول هيكلي طالما تجاهله العالم.
انفجار الأسعار وتجاوزها حاجز السبعين دولارا للأونصة قبل أيام لا يأتي من فراغ، وإنما يمثل ما يمكن وصفه بـ“التصحيح القسري” لسنوات من سوء التقدير والتراخي في فهم الأهمية الإستراتيجية لهذا المعدن.
أحد أبرز محركات هذا التحول هو القرار الصيني بفرض قيود صارمة على تصدير الفضة ابتداء من الأول من كانون الثاني 2026. هذا القرار، الذي قد يبدو حمائيا في ظاهره، يحمل في جوهره أبعادا جيوسياسية واضحة. فالصين، التي تهيمن على جزء كبير من سلاسل الإمداد العالمية، اختارت أن تحصر التصدير في نطاق ضيق يخدم مصالحها الصناعية والإستراتيجية. وما حدث سابقا مع المعادن النادرة ليس ببعيد؛ فاليوم تعيد بكين المشهد ذاته ولكن مع معدن يُعد عصبا مباشرا للصناعة الحديثة.
العامل الثاني والأكثر خطورة يتمثل في العجز الهيكلي المستمر في سوق الفضة. فمنذ خمس سنوات متتالية، يستهلك العالم كميات من الفضة تفوق ما ينتجه.
تشير التقديرات إلى أن الطلب العالمي في عام 2025 سيبلغ نحو 1.24 مليار “أونصة”، في حين لا يتجاوز المعروض 1.01 مليار “أونصة”. نحن أمام فجوة تتجاوز 200 مليون “أونصة”، وهي فجوة لا يمكن سدّها بسهولة، خاصة إذا علمنا أن تطوير المناجم الجديدة يحتاج في المتوسط إلى عشر سنوات قبل دخولها مرحلة الإنتاج.
هذا الخلل بين العرض والطلب يتزامن مع تصاعد غير مسبوق في استخدامات الفضة الصناعية. فالظفة عنصر أساسي في تقنيات الطاقة الشمسية، حيث تدخل في تصنيع الخلايا الكهروضوئية، كما تؤدي دورا محوريا في السيارات الكهربائية، والإلكترونيات الدقيقة، وشبكات الاتصالات المتقدمة. ومع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة والرقمنة، يتزايد الاعتماد على الفضة بوتيرة أسرع من قدرة السوق على الاستجابة.
من هنا، لم تعد الفضة “ذهب الفقراء” كما اعتاد البعض تسميتها، ولا مجرد أداة للمضاربة قصيرة الأجل. إنها اليوم وقود الثورة الصناعية الجديدة. ما نشهده هو عملية مطاردة كميات هائلة من رؤوس الأموال لمخزون محدود من معدن حقيقي، نادر، ولا يمكن تعويضه بسرعة. في مثل هذه اللحظات، ومع ما حدث ويحدث من تصحيح، لا تعكس الأسعار أي مبالغة، بل تجسد واقعا تأخر العالم كثيرا في الإقرار به!



