العنف ضدّ المرأة… جرح مستمر ومسار ضروري للتغيير

نور المصري

حرير- ليس العنف ضد المرأة مجرّد حادثة عابرة أو موقف منفرد، بل هو نتيجة تراكم طويل من ممارسات اجتماعية وثقافية وقانونية أدّت إلى واقعٍ صعب تعيشه النساء يوميّاً، يُجبرهنّ على مواجهة الخوف والعزلة، في وقتٍ يجب أن يكون فيه الأمان والكرامة من حقوقها الأساسية. في مجتمعاتٍ عديدة، يُبرَّر العنف الأسري بالمفاهيم التقليدية المتعلقة بالشرف والخصوصية، بينما يبقى الدعم القانوني والمجتمعي ضعيفاً أو متأخّراً. وفي الأردن، كما في دول عربية كثيرة، تكشف البيانات والإحصاءات أن العنف ضد المرأة ليس قضية فردية، بل ظاهرة وطنية تتطلب اهتماماً مستمرّاً من الدولة والمجتمع معاً.

تفيد نتائج المسح الديموغرافي والصحي لعام 2017-2018 بأنّ 25.9% من المتزوّجات في الأردن أبلغن عن تعرّضهن لعنف جسدي أو نفسي أو جنسي من الزوج خلال حياتهنّ. من بينهنّ، أفادت نسبة 20.6% بتعرضهنّ لعنف نفسي أو عاطفي، و17.5% لعنف جسدي، و5.1% لعنف جنسي. وتفيد هذه الإحصاءات بأن امرأة من كل أربع نساء تقريباً تحمل في تاريخها تجربة عنف، ما يجعل الظاهرة واسعة الانتشار وليست استثناءً.

وفي دراسة أخرى أجرتها منظّمة الصحة العالمية على عيادات الصحة الإنجابية في الأردن، أفادت نسبة كبيرة من النساء بأنهنّ تعرّضن للعنف النفسي أو السيطرة العاطفية أو الاقتصادية بنسبة 73.4%، فيما تعرّضت 30.2% لعنف جسدي، و18.8% لعنف جنسي. وتوضح هذه البيانات أن العنف لا يقتصر على الاعتداء البدني، بل يمتد ليشمل أبعاداً نفسية واجتماعية تعمّق المعاناة، وتمنع النساء في حالاتٍ كثيرة من التحدّث عن تجاربهنّ.

من المهم الإشارة إلى أن حالات عنفٍ كثيرة لا يبلّغ عنها أبداً، بسبب الخوف من الانتقام أو وصمة العار الاجتماعي أو عدم الثقة في الإجراءات القانونية. وبالتالي؛ قد تكون الأرقام الفعلية أعلى بكثير مما يظهر في المسوح الرسمية. وتجعل هذه الحقيقة من الضروري النظر إلى العنف بوصفه ظاهرة مستمرّة ومعقدة تتطلب مقاربة شاملة.

على المستوى الإقليمي، تفيد تقديرات منظّمة الصحة العالمية بأنّ واحدة من كل ثلاث نساء تتعرّض للعنف الجسدي أو الجنسي من شريك حميم خلال حياتها. وتضع هذه النسبة الأردن ضمن سياق عالمي واسع، لكنها أيضاً تسلط الضوء على التحدّيات الخاصة بالثقافة والعادات والقوانين المحلية التي تؤثر في شكل العنف وكيفية التعامل معه. وقد أظهرت المناطق التي تشهد نزاعات أو أزمات اقتصادية أو صحية، مثل جائحة كورونا، زيادة ملحوظة في العنف ضد المرأة، بسبب التوتر والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن ضعف شبكات الحماية والخدمات المساندة.

يترك العنف ضد المرأة آثاراً متعدّدة تتجاوز الألم الجسدي. نساءٌ كثيرات يعانين من اضطرابات نفسية شديدة تشمل الاكتئاب، والقلق، واضطرابات النوم، والشعور المستمر بعدم الأمان. بعضهنّ يعشن حياة مليئة بالخوف والرعب، وقد تستمرّ آثار العنف سنوات طويلة بعد انتهاء العلاقة العنيفة، وتؤكّد هذه النتائج أن العنف لا يؤثّر على الفرد فحسب، بل يمتدّ أثره إلى الأسرة والمجتمع بأكمله.

وقد أظهرت دراسة تحليلية حديثة أن العنف الأسري يكلف المجتمع كلفة اقتصادية كبيرة، تشمل الخدمات الصحية، والدعم النفسي، وفقدان الإنتاجية، وتكاليف حماية الضحايا. وتثقل هذه الكلفة كاهل الأسر والدولة، وتؤثر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بالتالي؛ ليس تجاهل العنف ضد المرأة خياراً محايداً، بل هو قرارٌ يؤدّي إلى استمرار الجرح المجتمعي وتأخر التنمية.

لماذا تستمرّ هذه الحلقة؟ تسمح عوامل رئيسية عدّة باستمرار العنف ضد المرأة. أولاً، ثقافة الصمت والوصمة. كثير من النساء يخشين الإفصاح عن المعاناة خوفاً من الانتقام أو السخرية أو التشهير، وفي حالاتٍ كثيرة يُعتبر الحديث عن مشكلات الأسرة خرقاً للخصوصية أو تهديداً للسمعة. ثانياً، القصور في تنفيذ القوانين. رغم وجود تشريعات لحماية المرأة من العنف الأسري، تعاني حالاتٌ عديدة من بطء الإجراءات ونقص الدعم القانوني والنفسي والملاجئ. ثالثاً، غياب التوعية. لم توفّر البرامج التعليمية والإعلامية التوجيه الكافي لتغيير المفاهيم التقليدية المتعلقة بالمرأة ودورها، ما يترك النساء عرضةً للتمييز والاعتداء. رابعاً، الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على الأسرة مباشرةً، وتزيد من احتمالات وقوع العنف.

وتؤكّد تجارب واقعية (مجهولة الهوية) هذه الصورة. امرأة في الثلاثين من عمرها، أم لطفلين، عاشت سنوات من العنفَين، النفسي والجسدي، وكانت تتجنّب الحديث عنه خوفاً من نظرة المجتمع، حتى اكتفت بالصمت. امرأة أخرى فقدت عملها بسبب تعرّضها لضغط نفسي من زوجها، فزاد اعتمادها المالي عليه، ما جعلها محاصرة ومجبرة على الاستمرار في العلاقة المؤذية. وتعكس الحالتان، وغيرهما، واقع ملايين النساء اللواتي يواجهن العنف بصمت، وتبرز أهمية وجود سياسات حماية حقيقية واستجابة فورية.

يتطلب القضاء على العنف ضد المرأة رؤية شاملة ومتكاملة. يجب أن يشمل هذا تنفيذاً فعالاً للقوانين مع ضمان حماية النساء الناجيات من أي تهديد، وإنشاء ودعم مراكز حماية وملاجئ مؤقتة، وخطوطاً ساخنة للاستجابة، وخدمات قانونية ونفسية متاحة على الفور، كما يتطلب برامج توعية مستمرّة تبدأ من التعليم الأساسي، مروراً بالإعلام، وصولاً إلى مؤسّسات المجتمع المدني والديني، لتغيير المفاهيم الخاطئة وتبني قيم المساواة والاحترام.

يعدّ التمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة جزءاً أساسيّاً من الاستراتيجية. تعليم المرأة، وتمكينها من العمل، واستقلالها المالي، أوضاع تقلل من هشاشتها أمام العنف وتمنحها القدرة على اتخاذ قرارات تحمي نفسها وأسرتها. ويلعب دعم مؤسّسات المجتمع المدني والمبادرات النسوية دوراً مركزيّاً في رصد الانتهاكات، وتقديم الدعم الفوري، والمناصرة من أجل الحقوق. بالإضافة إلى ذلك، يجب إجراء مسوح ودراسات دورية لتحديث البيانات وفهم حجم المشكلة الحقيقي، وتطوير استراتيجيات فعّالة للتعامل معها.

ليس العنف ضد المرأة قضية تخصّ الضحية فحسب، بل هو اختبار لعقلية المجتمع، لقوانينه ولقيمه. المجتمع الذي يسمح بالاعتداء أو يتغاضى عنه يُضعف نفسه داخليّاً، ويعرّض استقراره للخطر. الاحترام والكرامة ليسا قضية رأي، بل حقوق أساسية يجب أن تحظى بالحماية الكاملة. وإذا أردنا مجتمعاً عادلاً ومستقرًاً، يجب أن يكون احترام المرأة وحمايتها جزءاً من قيمنا وممارساتنا اليومية. الاعتراف بالمعاناة، وتوفير الدعم، وتعزيز الحقوق والتمكين، ليست مجرّد مسؤوليات أخلاقية، بل أساس بناء مجتمع متماسك وآمن. النساء نصف المجتمع، وحمايتهنّ حماية للمجتمع بأسره.

مقالات ذات صلة