
نموذج جديد أو صفعة للساسة من أبناء الاغتراب
فاطمة العيساوي
حرير- أثار انتخاب زهران ممداني عمدة نيويورك هياجاً إسلاموفوبياً ومعادياً للمهاجرين غير مسبوق في الولايات المتحدة وخارجها من سياسيين ومعلقين في الإعلام اليميني ومؤثرين في “السوشيال ميديا” وغيرهم. إلّا أنّ الشاب الذي استعار وقاحة الرئيس الأميركي الشعبوي دونالد ترامب كان قد قال بالفم الملآن إنه لا يخجل مما هو عليه ولن يعتذر عنه: مسلم وتقدّمي، والأهم أنه مهاجر في مدينة المهاجرين الذين صنعوا الحلم الأميركي بكل أديانهم ولغاتهم وألوانهم. كان متوقّعاً أن يواجه ممداني حملة شيطنة بوصفه مرشّحاً مسلماً من أصول آسيوية، لكنه اختار، في بداية حملته، أن يتفادى الانشغال بالردّ عليها إلى حين خروج تعليقاتٍ من نسق أنه سيحتفل بأي إعادة لهجمات 11 سبتمبر (2002)، وأنه يدعم “الجهاد العالمي”. ردّ ممداني بالتذكير بحوادث مؤلمة من التمييز واجهها وعائلته بعد تلك الهجمات في نيويورك، وقال “أن تكون مسلماً في نيويورك يعني أن تتوقع الإهانة، لكن الإهانة لا تميزنا بشكل خاص، فعديد من سكّان نيويورك يتعرضون لها. الأمر يتعلق بتقبل هذه الإهانة”. أن تتلقى إهانة أمر يحدث للجميع، لكن أن تتماهى مع مضمون الإهانة أمر آخر.
ليست سابقةً أن يتعرّض مسؤولون منتخبون من مجموعات يفترض أنها مهمّشة لكم من الشيطنة بلغت في حالة ممداني حد التهويل بأن أسامة بن لادن نفسه يحتفل من قبره بانتخاب الشاب. قالت معلقة في “فوكس نيوز” إن انتخاب ممداني سيعرّض النساء في نيويورك لخطر فرض الحجاب عليهنّ كما في لندن “الإسلامية”، على حد تعبيرها. كمية الهلوسة حول خطر المد الإسلامي الذي يشكله انتخاب عمدة مسلم لمدينة بأهمية نيويورك فاقت الخيال. سال حبرٌ كثير في المقارنة بين انتخاب ممداني أول عمدة مسلم من أصول آسيوية لمدينة نيويورك وانتخاب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة في حدث تاريخي باعتباره أول رجل أسود يصل إلى الرئاسة الأميركية، ليطوي صفحة العبودية إلى غير رجعة. كانت المقارنة أيضاً بين ممداني وعمدة لندن صادق خان متوقعة، باعتبار أن انتخاب الأخير في مدينة لندن التي تفتخر بتنوع نسيجها الاجتماعي مماثلٌ، إلى حد كبير، لانتخاب ممداني، رغم أن انتخاب خان حظي بدعم حزب العمال بوصفه مقرّباً من حلقة رئيس الوزراء السابق توني بلير.
في بريطانيا، يعتبر صادق خان أحد الأهداف المفضلة للإسلاموفوبيا، إذ بيّنت دراسة حديثة أن حجم تعبيرات الكراهية للمسلمين الموجّهة ضد شخص خان تضاعفت أكثر من مرّة خلال فترة عام. بحسب دراسةٍ أعدّتها هيئة لندن الكبرى، فإن ما يقارب 28 ألف منشور على وسائل التواصل الاجتماعي تضمّن كلمة “خان” بوصفها كلمةً رئيسية في التعبيرات المعادية للإسلام العام الماضي، مقارنه بـ 12 ألف منشور قبل عام، بزيادة أكثر من ثمانية أضعاف عن عام 2022. نادراً ما يتحدّث عمدة لندن الذي ينشط ضد تعبيرات الكراهية العنصرية على الإنترنت منذ أكثر من 20 عاماً، بلسان حاله أكثر من الاعتزاز بأنه ابن سائق حافلة نقل عمومي في لندن، وكأن صعوده في مراتب السلطة في حزب العمال قصة نجاح فردية لا علاقة لها بالمجموعة التي يتحدر منها. تفادى خان أيضاً الحديث عن الإبادة في غزّة، رغم دفاعه عن التظاهرة الشهرية التي تخرج في شوارع لندن، دعماً لغزّة في وجه محاولات الشيطنة. تحدّث متأثراً عن معاناته وعائلته من اضطرار الشرطة لفرض حماية على مدار الساعة بسبب “لون بشرته والإله الذي يعبده”، كما قال في مناسبة عامة، بعد تلقّيه تهديدات بالقتل وتعليقات عنصرية منذ توليه منصبه عام 2016، قائلاً إنه لم يرغب يوماً أن يكون “رمزاً للحرب الثقافية”. يعتمد الخطاب المعادي للإسلام على قوالب نمطية سلبية شائعة عن المسلمين، منها أنهم ميّالون إلى العنف ويشجعونه، ويميّزون ضد المرأة، وأنهم أقل تحضراً من الغربيين. في حالة صادق خان، أضيف إلى الاتهامات ضده أنه يشجع الإرهاب، ومسؤول عن حالة “الانفلات” الأمني في لندن، وإشارات عنصرية إلى ما يعتبر “دمامة” في شكله.
أبدى زهران ممداني قدرة على مواجهة هذا الكم من الكراهية بصلابة يمكن وصفها بـ”سماكة الجلد”، من دون التحوّل عن شعارات وبرامج حملته التي لا علاقة لها بأصوله، إلا أن هوية المهاجر التي يفخر بها جزء أساسي من خيار الناخبين التصويت لصالحه، كما كان الحال في انتخاب صادق خان في لندن، على اختلاف آلية الانتخاب والظروف السياسية والمجتمعية. بقي خان خجولاً في الدفاع عن هويته وحجم استهدافه العنصري بالاكتفاء بالإشارة إلى معاناة عائلته. في حكومة حزب العمّال كما في المعارضة البريطانية، عدد غير قليل من المسؤولين المتحدّرين من الاغتراب ممن يستغلون أي فرصة للتعبير عن “الولاء” للدولة عبر ترويج سرديات شديدة العداء للمهاجرين، مقتبسة من قاموس اليمين المتطرّف. على سبيل المثال، ساند وزير الخارجية المتحدر من الاغتراب، ديفيد لامي، السياسات الإسرائيلية في غزّة، رغم مواقفه السابقة في مناهضة العنصرية ضد السود، ومنها نظام الفصل العنصري. ولا تفوّت زعيمة المعارضة كيمي بادينوك أي فرصة لمهاجمة الاغتراب، في محاولة وقف هجرة الأصوات المحافظة لصالح اليمين المتطرّف. إنها تتحدر هي أيضاً من الاغتراب، حمّلته مسؤولية ما تراه تفكّك المجتمع، معتبرة أن على الحكومة أن تقوم بالمزيد، من دون الخوف من “وصمة العنصرية”. وزيرة الداخلية العمّالية، شبانة محمد، وهي أيضاً ابنة الاغتراب، دافعت عن أكثر الإجراءات تشدّداً في ما تسميها خطّة إصلاح نظام الهجرة، ووصلت إلى حد القول إنّ مسألة الهجرة باتت “تمزّق” البلاد، ما حدا بنائب من حزب اليمين المتطرف (ريفورم) لدعوتها إلى الانضمام للحزب.
لا وقت لذرف الدموع على التمييز وتعبيرات الكره عبر الإنترنت أو غيره. أيضاً، لا يوجد موجب أخلاقي للمغالاة في ما يعتبر “ولاء” للدولة عبر تعبيرات كره الذات. … قدّم زهران ممداني نموذجاً جديداً للسياسي من أصول مهاجرة: لا يخجل مما هو عليه، ولا يعتبر هذه الأصول حاجزاً دون التضامن مع من هم من أصول وتاريخ مختلفين تحت مظلّة سياسية واحدة. صفعة قدّمها الشاب زهران على وجه وصوليي السياسة من أبناء الاغتراب.



