
حرب السودان والهروب بالدولة
ناصر النور
حرير- يبدو أن ما آلت إليه الأوضاع في السودان بفعل الحرب المحتدمة بين طرفيها، قوات الجيش والدعم السريع، على مدى ثلاث سنوات منذ الخامس عشر من أبريل 2015 وبنتائجها العسكرية المتغيرة، في تقدم الدعم السريع عسكريا، وتراجع الجيش وتراخي القبضة السياسية للدولة بخروجها من مواقع وتمركزات عسكرية وسقوط مدن. ومع تزايد الضغط الدولي على الجانب الحكومي، الذي تتخبط سياساته في التعامل مع الأطراف الدولية، وما أحدثته تصريحات الجنرال البرهان قائد الجيش رأس الحكومة العسكرية، من إرباك بشأن المقترح المقدم من مجموعة دولة الرباعية لمبادرة السلام السوداني، في موضوعات تستدعي التزاما سياسيا وأخلاقيا، لا المناورة والمواقف التكتيكية، أضعف موقفه أمام العالم، وهزّ صورته كرئيس غير موثوق فيه.
وما بين حالة الإنكار في الخطاب الداخلي والاستجابة الخفية في الخارج، التي يشوبها حذر في الوقت نفسه، أصبح الموقف السياسي للحكومة غائما، ما يزيد من تعقيد غير مطلوب في المرحلة الحرجة للحرب على الأصعدة كافة. فالحرب ظلت تدار بلا سقف يحدد أهدافها – إن كان لها من هدف- ما إذا كانت استراتيجية في الدفاع، أو حسما لقوة متمردة خرجت على شرعية دولة فشلت في مواجهتها، وبالتالي لا يتوقع من حرب على هذه الوتيرة، إلا نتائج كارثية إنسانية مورست فيها أبشع الانتهاكات بما يفوق فظاعات حروب العالم الثالث الأهلية مجتمعة.
يكشف هذا الوضع تورط الحكومة العسكرية وحلفائها من الإسلاميين، جماعات حزب المؤتمر الوطني، مقروءا على ضوء التطورات العسكرية على الميدان، والتردد في التعامل مع المجتمع الدولي، وما يقدمه من مبادرات تفاوضية، تراوح مكانها بين الرفض والمماطلة. وبدخول الولايات المتحدة – وهي ضمن دول الآلية الرباعية – على المستوى الرئاسي في الأزمة السودانية، بناء على تصريح ماركو ربيو وزير الخارجية الأمريكي الثلاثاء الماضي، بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتولى شخصيا ملف السودان، واصفا إياه بالزعيم الوحيد في العالم القادر على إنهاء أزمة السودان؛ يكون تحقيق السلام قد تصاعد في أكثر من جبهة مرشحة للمواجهة المباشرة، في حال تمسكت الحكومة بموقفها الضبابي. وهذا الاقتراب الأمريكي من ملف حرب السودان بتعقيداته الداخلية والخارجية لا يعني توصلا لحل تفاوضي يرضي الجميع في ظل تصاعد انتقادات الخارجية الأمريكية على الجانب الآخر بالتحقيق في استخدام الجيش للأسلحة الكيميائية، ومطالبتها للحكومة السودانية بالاعتراف وعدم الاستخدام مجددا، ما يزيد من عبء المواجهة مع الجانب الأمريكي.
وفي التوقيت ذاته يتمدد الانتشار العسكري الواسع لقوات الدعم السريع، بما يمهد لوضع قد تختلف حوله التحليلات، إلا أنه لا يعدو أن يكون وضعا يؤسس سودان مختلفا في الموقع والتعريف وربما الجغرافيا. ومع أنه الطرف الذي أعلن هدنة من جانب واحد، إحراجا للحكومة في رفضها وتلكؤها بقبول أي هدنة، تكون دولة الإمارات طرفا فيها، كما صرح قائد الجيش. واستمر نشاطه العسكري في وجود الهدنة التي أعلنها يعلن بين الفينة والأخرى اجتياحه لمدن جديدة. إن موقف الدعم السريع يلعب على التناقضات في معادلة التفاوض واستغلال الضغط الممارس على حكومة البرهان، التي تفقد بمرور الوقت العديد من الخيارات التي تسمح لها بالمناورة، خاصة بعد التضييق الذي تقوده الولايات المتحدة دوليا على عناصرها الإسلامية النافذة بالأمر التنفيذي، باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وللحركة الإسلامية السودانية نصيب وافر من هذا التصنيف، على مستوى منظومتها الدولية التي يشكل السودان إحدى قواعدها، حيث تسيطر على مقاليد الحكم فيه وتتصدر قرارات الموقف من الحرب.
إن التحالفات الدولية الداعمة للطرفين في الحرب، شهدت تحولات مؤثرة خاصة أنها تحالفات يدخل فيها الدعم اللوجيستي والسياسي والأيديولوجي، بين دول إقليمية وعربية ودولية ومنظمات عابرة للقارات. فالصراع الذي اعتمد طرفاه بشكل واسع على تحقيق مصالح لا تخدم قضية السودان، إلا في ما يحقق على أرضه من صراع المصالح بين قوى دولية متشابكة، فقد باتت هذه التحالفات رهينة بموقف الدول الأكثر نفوذا وقوة في التأثير على مجريات الحرب. فالولايات المتحدة بسياسة تحالفاتها تحت الإدارة الحالية، وطريقة تعاملها مع منطقة نفوذها التقليدية في الشرق الأوسط، تأتي المسألة السودانية ضمن حزمة من الإجراءات وليست أولوية منفردة مهما أشارت التصريحات بغير ذلك.
فالمحور الدولي الرئيسي في تحالف الحرب الجارية، مصر والإمارات وإلى حد ما تركيا، كلها تعمل على الدعم الذي يزيد من استمرار الحرب، بدلا من موقف داعم لوقفها على اختلاف مصالح كل طرف وما يعنيه الصراع في أعمق أبعاده الجيواستراتيجية. وتبدو بدائل الحكومة السودانية أمام هذا الواقع الضاغط، عاجزة عن الاستجابة لتحديات اتسعت دائرتها، ما جعل من تصريحات قادتها تتخبط ما بين المضي في حرب استنفدت مواردها، وتبنى مواقف سياسية متصلبة بوجه المبادرات كافة، بالاستناد إلى أجندة الحركة الإسلامية الممسكة بزمام السلطة، أو الاستجابة مناورةً للضغوط الدولية دون صدام مباشر، لا تحتمل تكاليفه السياسية. وفي خضم هذه التوترات الحادة وغير المسبوقة في مسار الحرب تحاول الحكومة توجيه خطاب داخلي يتمسك بآخر ما تلجأ إليه الأنظمة العسكرية عادة، بالعودة إلى بعث شعارات وطنية زائفة، وتعبئة عسكرية عامة، استجداء لتعاطف مفقود، انتهاء إلى إعادة بعث رموز وطنية للدولة كما جاء في اقتراح الجنرال البرهان الأخير، القاضي بتغيير علم البلاد. ويتضح سياسيا من هذا المقترح غير المسبوق في تاريخ الدولة السودانية، محاولة في الهروب من نتائج حرب أشعلتها جماعات وفقدت السيطرة عليها والتحكم بمساراتها من حرب محدودة بهدف السيطرة على السلطة إلى تمزيق البلاد، وتجنب العدالة الدولية. ويمثل هذا الانعطاف الخطير في نتائج الحرب محاولة للفرار من دولة ومؤسساتها قادت حربا موظفة لمؤسساتها، وأدت إلى نتائج لم يعد تحملها ممكنا بالمعايير العسكرية والسياسية، إلا بالتخلص من إرثها المتخم بالحروب. وإذ تعد خطوة البرهان ومن وراءه من متشددي الحرب من عناصر الميليشيات الشعبية الداعمة للجيش، إمعانا في الهروب نحو دولة جديدة مفترضة، تحت رايات جديدة تغذيها نزعات انفصالية تتأسس على دعاوى إثنية قوَّت الحرب من نزاعاتها. ولا يملك أي من الطرفين إخفاء أجندته في الانفصال، ومنها ما هو معلن كـ «حكومة تحالف» تأسس تحت سيطرة الدعم السريع في إقليم دارفور الذي يحكمه متخذا من مدينة نيالا عاصمة إدارية له. فما ظهر على الخريطة العسكرية التي رسمتها نتائج الحرب بتقسيماتها العسكرية وحدودها الجهوية، أسست لها سياسات الحرب نفسها التي أوضحت معالم جغرافيا سياسية جديدة لبلد تتعدد مصادر سلطاته وعواصم قراراته بين طرفين يتقاسمان جرائم حرب أفرزت انتهاكات مشهودة عالميا.
إذا كان الهروب بالدولة إلى الأمام كحل للتخلص من جرائم ارتكبتها الدولة القائمة، ثمنا للحفاظ على سلطة يسيطر عليها تنظيم وحيد، فإن هذه الخطوة على مسلكها المتهور لن يجنب الدولة الحالية المسؤولية الأخلاقية والتاريخية، وإن تكن هذه القيم الإنسانية والسياسية والقانونية آخر ما يهم قادتها. ولكن بالقياس إلى حجم الكلفة البشرية وفداحة انتهاكاتها التي لم تؤثر على طرفي الحرب أو تجبرهما على التنازل، حفاظا على ما تبقى من أجزاء بلد ينقاد نحو انهيار مريع، فتوقع الأسوأ يكون في حدود الاحتمالات الأكثر ترجيحا أكثر من أي سياسية عقلانية قد يرجع إليها الطرفان.



