
حين تتحول الإبادة إلى خطة لمحو الزمن… وكيف طالت الحرب التراث والتاريخ والآثار بالسرقة والطمس الممنهج
المخرج الفلسطيني يحيى بركات
كان الحجر يخرج من تحت الركام كأن له روحًا، رأس تمثال مكسور يطلّ من بين الغبار مثل وجه طفل خرج للتو من حضن الموت. في تلك اللحظة، أدركت أن الحرب لا تقتل الإنسان فقط، بل تفتح جرحًا في الزمن نفسه، وتضرب ذاكرة المكان في عمقها، كأنها تسعى لاقتلاع ما تبقى من الدفء البشري المدفون في الحجارة، ومن الحكايات القديمة التي تحملها الجدران، ومن أصوات الأجداد التي ما زالت تتردد على أطراف الأزقة.
هنا، يصبح التراث ليس حجارة، بل جسدًا روحيًا لشعب، وامتدادًا لمعنى الوجود ذاته. الحرب لم تضرب المساجد والكنائس والمكتبات والمتاحف عرضًا، بل ضربتها باعتبارها قلب الهوية، وضربتها كما يضربون الشجرة من جذورها، وها هم يسحقون سبعة آلاف سنة من العمران، ويقتلعون الآثار من متحف قصر الباشا كمن يسرق عين المكان وذاكرته، ويحوّلون المدينة التي تشكلت عبر الزمن إلى غبار، وإلى ركام، وإلى مساحة يحاول الاحتلال تسميتها كما يشاء بعدما محا كل اسم سابق.
كل ذلك لم يكن خسائر جانبية، بل طريقة دقيقة لارتكاب جريمة مكتملة الأركان: جريمة الإبادة الثقافية كما وصفها رالف ليمكين، وجريمة المحو المعرفي كما شرح الباحث حمدان طه، الذي بيّن كيف تحوّل علم الآثار في فلسطين – منذ الحقبة العثمانية ثم الانتداب – إلى ساحة لصناعة رواية تخدم مشروعًا استعماريًا يسعى لربط كل شيء بقراءة توراتية، وتغييب كل أثر يدلّ على الجذور العربية والإسلامية والفلسطينية للبلاد.
وتزداد الصورة قتامة حين نراها اليوم في قلب الحرب:
المسجد العمري مدمّر…
الكنائس محروقة…
المقامات مدفونة تحت الردم…
القدس تُبتلع حجراً حجراً…
والقرى تُمحى من الخرائط كما تُمحى من الذاكرة.
وفي اللحظة التي يحاول البعض فيها إعادة بناء صور الماضي عبر حنين مشوّه، يذكّرنا الباحث عصام نصار أن الحنين ليس هو الذاكرة، وأن الصور التي تُستخدم على وسائل التواصل — طائرات كُتب عليها “شركة الطرق الجوية بفلسطين” تُقدَّم باعتبارها شركة وطنية — ليست سوى أمثلة على ذاكرة عاطفية غير دقيقة، تجعل الفلسطيني يعيش في خيال الماضي بدل أن يواجه محو الحقيقة. ولهذا دعا إلى أرشيف وطني موثوق، تديره مؤسسة مختصة لا تترك الرواية لأهواء الفيسبوك، بل تضع الصورة في سياقها وتعيد للعقل الفلسطيني قدرته على قراءة التاريخ لا وهمه.
وفي المقابل، كان الباحث جمال برغوث يدعو إلى العصيان المعرفي: أن نكسر هيمنة الأكاديميا الغربية التي تطوّع علم الآثار لخدمة الرواية الإسرائيلية، وأن نعيد تشكيل منهج فلسطيني ينطلق من الأرض، من ذاكرة المكان، من التفاصيل الصغيرة التي لم يصلها الدمار بعد. كانت دعوته ليست أكاديمية فقط، بل صرخة كي لا تتحول المعرفة إلى أداة استعمار ثانية.
وفي زمن تتكثف فيه الحرب على البشر والحجر، يصبح الحديث عن “الركام” قراءة للحاضر. فالركام ليس أنقاضاً، بل نصّ مفتوح، وثيقة كُتبت بالنار والقصف، تشهد على أن العمران لم يمت بل حاولوا قتله. في مؤتمر بيت لحم الدولي للآثار والتراث، كانت المداخلات تُعيد تشكيل فهمنا للعلاقة بين الإنسان والأرض، بين القرية والذاكرة، بين الماضي الذي يريد الاحتلال محوه والمستقبل الذي يحاول الفلسطيني أن يحفظه. الباحث أحمد عز أسعد قرأ قريته “أرطاس” كما لو يقرأ نبضًا بشريًا لا مجرد صور، وقدم حمزة العقرباوي “مقامات الأولياء” كفضاءات روحية تتداخل فيها الرموز والممارسات الطقسية مع المكان، وكأن كل مقام جسدٌ صغير يربط الحفيد بالجد.
وفي موازاة ذلك، عُقد في القاهرة مؤتمر “التراث الفلسطيني في ضوء العدوان والإبادة الجماعية – واقع ومستقبل”، ليقول للعالم إن الحرب لم تستهدف البشر فقط، بل استهدفت القرى، المعابد، المواقع التاريخية، المخطوطات، المطرزات، الموروث اللامادي، وكل أثر يمكن أن يشهد بأن هذا الشعب عاش هنا، وأن له ذاكرة ممتدة. كان النداء موجهاً لليونسكو كي تقوم بما يجب عليها أن تقوم به: ليس إصدار بيان شجب، بل فتح ملفّ محاسبة، لأن ما جرى يدخل ضمن الجرائم الثقافية المحرّمة وفقا للقانون الدولي.
وفي هذا السياق، لم أكن مراقبًا من بعيد. فقد طلب مني الصديق جمال سليمان قبل أشهر أن أنضم إلى اللجنة الوطنية للتراث، وشهدتُ اجتماعها الأول عبر “زوم”، وقدمت فيه اقتراحات حول ضرورة إنتاج أفلام توثق الإبادة التي تعرّض لها التراث والآثار والتاريخ. كنت أرى كمخرج سينمائي أنّ الصورة اليوم لم تعد خيارًا، بل ضرورة لإنقاذ ما تبقى من روايتنا البصرية قبل أن يبتلعها الركام. هذه اللحظة لم تكن تفصيلاً، بل الباب الذي دفعني للغوص أكثر في هذا الملف الذي أصبح مع الزمن جزءًا من معركة الوجود الفلسطينية.
وفي اللحظة التي تتشابك فيها المعرفة بالمشهد، جاءت قراءة تاريخية تصحيحية تقول فيها د. غانية ملحيس إن غزة — التي يحاول البعض تصويرها كمدينة “ملعونة” عبر اقتباسات مقتطعة من مقال يوسف العيسى عام 1912
ليست كذلك أبداً. تاريخ غزة، كما تقول، ليس لعنة بل بركة التاريخ نفسه. مدينة كنعانية منذ خمسة آلاف عام، مرّ عليها الفراعنة، الآشوريون، البابليون، الفرس، الإغريق، الرومان، المسلمون، الصليبيون، المماليك، العثمانيون… ولم تسقط. مسقط رأس الإمام الشافعي، مركز التجارة والحج، ساحة المقاومة، قلب الحركة الوطنية، حاضنة اللاجئين، منارة الانتفاضات، وصرخة الضمير العالمي اليوم. في قراءتها، يصبح التاريخ نفسه سلاحًا مضادًا للإبادة: كل مرحلة عاشتها غزة — من العهد القديم إلى اليوم — تقول إن هذه المدينة عصيّة على الفناء.
وفي مقالة مفصلية للدكتورة غانية ملحيس، يظهر أن غزة اليوم لا تواجه الاحتلال وحده، بل تواجه “نظام الحداثة العنصري” الذي يرى العالم كمواد، والبشر كأرقام، والتراث كغنيمة يمكن نهبها أو دفنها. وتكشف بوضوح أن ما يجري للتراث في غزة ليس نتيجة حرب، بل نتيجة مشروع محو شامل، يستهدف الإنسان والتاريخ والمعنى معًا. غزة، بذاكرتها العميقة، وبممرّاتها القديمة، وبأحيائها التي حملت أسماء على مدى قرون، أصبحت اليوم مركز الوعي العالمي، لأنها المدينة التي تفضح — بدمها وحجارتها — زيف النظام الدولي الذي وقف صامتًا أمام خرابها.
هكذا يتبيّن أن الإبادة الثقافية ليست فعلًا منفصلاً عن الإبادة العسكرية، بل هي قلب المشروع الاستعماري نفسه. الاحتلال لا يريد قتل الفلسطيني فقط، بل يريد قتله داخل روايته، أن يحذف اسمه من على الحائط، أن يحرف معنى قصيدته، أن يُعيد تسمية شجرته، وأن يضع مفتاح بيته في متحف أوروبي باعتباره “قطعة أثرية مجهولة الأصل”.
وما يجب أن يقال بوضوح:
هذا الذي استهدف التراث الفلسطيني — بالسرقة، بالقصف، بالتهويد، بالتحريف، بالمحو — هو جريمة حرب مكتملة الأركان، وجريمة إبادة ثقافية، وجريمة ضد الإنسانية.
وأن هذه الملفات يجب أن تُرفع إلى محكمة الجنايات الدولية كما هي:
صور المساجد المحروقة، الكنائس المدمرة، المواقع المنهوبة، المقامات المسواة بالأرض، القرى المطموسة، المتاحف المسروقة، والوثائق التاريخية التي جرى تفريغها من سياقها.
على اليونسكو أن تتحرك ليس بوصفها منظمة ثقافية، بل بوصفها شاهدًا مطلوبًا للإدلاء بشهادته أمام العدالة.
إن حماية التراث الفلسطيني ليست ترفًا، ولا واجبًا أكاديميًا، بل واجب وجودي، لأن الاحتلال حين يحاول إسكات الزمن، يجب أن يكون الزمن نفسه شاهدًا عليه.
وما لم يُكتب بالأمس، سيكتبه الغبار اليوم.
وما لم يُحفظ في المتحف، سيحفظه جدار واحد نجى من القصف.
وما لم تستطع ذاكرة الحجر نقله، ستنقله ذاكرة الطفل الذي خرج من الركام شاهداً على أن الذاكرة لا تُباد.
في النهاية، حين يحاولون محو الحجارة… تنهض الذاكرة.
وحين يحاولون قتل المكان… ينهض الزمن.
وحين يسقط كل شيء أمام النار… يبقى الفلسطيني قائمًا، يمسك بيد الماضي كي لا يسقط، وينظر إلى الغد بعين تعرف أن التراث ليس ما كان… بل ما سيبقى.
يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
2/12/2025
#فلسطين #غزة #التراث_الفلسطيني #الإبادة_الثقافية #الذاكرة_لا_تُباد #JusticeForPalestine #CulturalGenocide #HeritageUnderAttack



