هل تعلموا الدرس من بيت جن؟

جمال تقي

حرير- ردة فعل تلقائية على واقعة محدودة في بلدة صغيرة من بلدات ريف دمشق، بيت الجن، تنزع عن الأمر الواقع كل مقتضياته، فالذي تريده إسرائيل عرفا لا مناص منه، لكل جوارها وأمصارها، ليكون الشرق الأوسط برمته مجالا حيويا لتغولها، ليس في بيت الجن غير اهلها، وهم ليسوا بشيعة، وبالتالي ليسوا من جماعة حزب الله، ومن غير المحسوبين على إيران، وهم ليسوا من حماس، أو أي جماعة إسلامية أخرى، أهالي البلدة يدافعون عن أنفسهم، من هجوم متواتر لقوات إسرائيلية مدججة بالسلاح، تريد إذلالهم والتنكيل بهم لإخضاعهم وجعلهم عونا لتوسعها، ما يسبب ضياع أرضهم وخراب عمرانهم والانتقاص من كرامتهم.

إذن مقاومتهم حق مكفول بالدفاع الفطري عن النفس، عن البقاء وعن الملكية وعن الكرامة، والعبرة لمن يعتبر، وما حصل في بيت جن، لا يعني إسرائيل وسوريا فقط، إنما كل أطراف الصراع في المنطقة، من غزة إلى الضفة الغربية ولبنان، حتى تلك التي تعتبر نفسها بمنأى عن التغول الإسرائيلي، بتقية تطبيعها وتحالفها غير المعلن مع الكيان الصهيوني، بقوة دفع الراعي الامريكي، لمواجهة إيران، وجعلها الشغل الشاغل للدول العربية من المحيط إلى الخليج، مرورا بتهميش القضية الفلسطينية والقفز على مستحقاتها كاملة، بهدف قيامة إسرائيل الكبرى التي تتجاوز أرض ما بين النهر والبحر، إلى تخوم دمشق والليطاني، مع الهيمنة على سماء الشرق الأوسط ومصائر دوله، بإدخالها جميعا لبيت طاعتها، مقابل ضمان استمرار حكم حكامها المطيعين!

على من يلوم وينتقد دعاة وحدة الصف العربي والإسلامي بوجه إسرائيل ونهجها التوسعي، والمطالبين بمقاطعتها، والتراجع عن سياسة التطبيع معها حتى تتراجع عن غيها، وعلى من يلوم وينتقد حزب الله وحماس، وأصحاب الدعوات لانتفاضة شعبية ضد حرب الإبادة على مزارعي وبدو الضفة ومخيماتها، كجنين ونور شمس وطولكرم، والتي تتوسع يوميا لتشمل كل مخيمات الفلسطينيين في الضفة، وحتى في لبنان، وربما في سوريا والأردن لاحقا، بذريعة خطرها التعبوي على أمن إسرائيل، عليه أن ينظر لما يجري على سوريا، ويفتي أو يجيب على السؤال المر، الذي لا بد منه عندما يدوس منطق جنون القوة الإسرائيلية سيادة وكرامة دول المنطقة وشعوبها، ما العمل؟

هذه حكومة سوريا الجديدة ومنذ الإطاحة بنظام الأسد، تعلن وعلى رؤوس الأشهاد، بأنها لا تريد اتباع سياسة عدائية إزاء إسرائيل، وترغب قولا وفعلا بالجنوح للسلام معها، ومستعدة للخوض بترتيبات تفضي لتسوية حقيقية، تضمن مصالح كل الأطراف، وهي تسعى جاهدة، بعد أن توطدت علاقتها بأمريكا، التي باتت على مقربة فاعلة من كل صغيرة وكبيرة في مسيرتها، للتجاوب مع وساطتها لتقريب وجهات النظر بخصوص الأراضي السورية المحتلة، ثم توقيع معاهدة سلام دائمة، ويشهد على ذلك، السفير توما برّاك المبعوث الأمريكي لسوريا، وهو على دراية كاملة بأن سوريا اليوم أقصت الوجود الإيراني بكل مركباته، ومنعت أي وجود فلسطيني أو لبناني مسلح على أراضيها، وهي عمليا أغلقت البوابة السورية بوجه حزب الله، وفتحت المجال أمام المفتشين عن الأسلحة المحرمة، وقد أثبتت بأنها لا تريد بناء أي قدرات عسكرية هجومية، وتكتفي بما يضمن سلامة أمنها الداخلي وضبط حدودها لتتوجه كليا لإعادة الإعمار وإنعاش اقتصادها شبه المنهار!

واقعية الحكومة السورية الجديدة وثقل التحديات الوجودية التي تواجهها داخليا وخارجيا، جعلت من أولوياتها الإبقاء على اتفاقية فك الاشتباك 1974 كحد فاصل يمكن بموجبه بناء تفاهمات أمنية مع إسرائيل، تكون قاعدة انطلاق مستقبلية لاتفاق سلام شامل يغطي كامل الأراضي السورية المحتلة، بما فيها هضبة الجولان، لكن عدوانية إسرائيل ونهجها التوسعي وانتهازيتها وغرور فائض القوة لديها، كل هذا جعلها تتمادى في توسيع مناطق احتلالها ونفوذها في عمق الجنوب السوري، حتى بلغ الصلف بها، جعل كل أراضي محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء منزوعة السلاح، وتحت رقابة جوية إسرائيلية دائمة، لمنع القوات النظامية السورية من الوجود، تارة بحجة حماية دروز السويداء، وتارة للحفاظ على أمن مستوطنات الجولان المحتل من عمليات تهريب السلاح، وكلها أسباب واهية للتغطية على أطماعها السافرة، فالهدف الحقيقي هو استباحة سوريا وجعلها حديقة خلفية لإسرائيل ومشاريعها الاستراتيجية، بإقامة إسرائيل الكبرى، وإلا، ما دواعي قصف بقايا سلاح البحرية السورية في الساحل، وما مبررات قصف الأعيان العسكرية في دمشق، وبناء قواعد رادارية وأجهزة تنصت على قمة جبل الشيخ؟

الحكومة السورية تستنجد بالوسطاء والأشقاء، وبالأمم المتحدة للضغط على إسرائيل كي تكف عن عدوانها وتوغلاتها المتكررة، وتلتزم بالاتفاقيات الدولية وتحترم السيادة السورية، دون جدوى. إسرائيل لا تخفي سعيها لتفكيك سوريا وإشاعة حالة من عدم الاستقرار بين مكوناتها، وهي تراهن على تأليب الأوضاع الداخلية بدعم الجماعات المنفلتة، ومدها بما يلزم لزعزعة النظام وهندسة الفوضى والاستثمار بها، وهذا ما تفعله تحديدا مع بعض الجماعات الدرزية والكردية!

ما العمل؟ هل المطلوب من الحكومة السورية الإعلان عن اعترافها بإسرائيل وبحدودها الجديدة المحاذية لريف دمشق؟ هل المطلوب منها نزع سلاح قواتها النظامية والاكتفاء بالتسلح بالعصي والسكاكين؟ ربما المطلوب منها السماح بإشراف إسرائيلي مسيرعلى مقدراتها وحدودها وعلى مطاراتها لضمان انصياعها؟

ما يجري على سوريا التي لم تطلق رصاصة على إسرائيل منذ عقود، ولم تنطلق من حدودها أي عمليات فدائية، دليل عملي صارخ على أكذوبة أن إسرائيل لا تقاتل من يسالمها، وأنها في موضع الدفاع عن النفس وأنها مهددة بوجودها وهذا ما يبرر سلوكها، بل العكس هو الصحيح فسوريا هي في موضع الدفاع عن النفس، هي من تُحتل أرضها، وتقصف عاصمتها، وهي المجني عليها، وفوق هذا كله تطالب بتفاهمات مسالمة، وإسرائيل ترفض!

إيران رُحلت من سوريا، وأحمد الشرع لا يطيق حزب الله، وهو لا يتدخل بالشأن الفلسطيني، ولا يعد العدة لتحرير فلسطين، فلماذا تنتقم منه إسرائيل؟ قد يقول قائل إن إسرائيل لا تنتقم من الشرع وإنما من سوريا، ولكن انتقامها هذا قد يدفعه هو للانتقام أيضا دفاعا عن سلطته، وهنا تعاد الكرة مرة أخرى، والعلة كلها في جشع إسرائيل التي لا تكتفي فعليا بما بين النهر والبحر! يبدو أن حسن واخوته من «بيت جن» يدركون بالفطرة إن انعدام ردود الأفعال المناسبة على الافعال غير المناسبة، هو أصل العلة، فاذا عجزت السلطة النظامية عن توفير الحماية لمواطنيها، من محتل غاشم، فمن حقهم الشرعي الدفاع عن أنفسهم بمقاومة شعبية أيديولوجيتها الصرفة الدفاع عن النفس، أم أن هناك رأيا آخر؟

مقالات ذات صلة