كوكبنا بين مطرقة الاقتصاد وسندان البيئة

طلال أبو غزالة

حرير- دأبتُ، منذ عقود، على التحذير من متغيّر اقتصادي يدقّ جدران ميزانيات الدول ويهزّ أركان النمو العالمي، لكن ما كان بالأمس خطراً مستقبلياً بات اليوم واقعاً يدير عجلة التضخم ويُملي شروطاً جديدة على حركة التجارة الدولية، ليصبح بذلك جزءاً من المراجعة الفصلية للناتج المحلي الإجمالي.

نعم، يعيش العالم اليوم عصر الاقتصاد المناخي، إذ أصبحت درجات الحرارة، ومعدّلات الأمطار، والعواصف التي تدمر كل شيء، أرقاماً تتردّد في تقارير البنوك المركزية وصناديق الاستثمار، قبل أن تذكر على هامش نهاية نشرات الاخبار.

لقد جاءت مواسم العقد الماضي كأنها اختبار قاسٍ لقدرة الاقتصاد العالمي على تحديد إيقاع النمو، وتعيد رسم خريطة المخاطر والفرص، ففي جنوب أوروبا، حيث كانت الحقول الممتدة تفيض بحبّ الحصيد والزيتون، حوّلت موجات الحرّ الشديد والجفاف الطويل التربة إلى رماد عطِش.

وفي الهند، سلة غذاء آسيا، تقلّص إنتاج الحبوب بنحو 10%، نتيجة تقلبات الطقس الحادّة، وهو رقم كفيل بإرباك ميزان الغذاء العالمي، فهذا التراجع في الإنتاج انعكس سريعاً على الأسواق، إذ ارتفعت أسعار الغذاء، واشتعل التضخّم الغذائي في الاقتصادات الناشئة، لتتحول المائدة اليومية للملايين إلى ساحة قلق ومعاناة.

وعليه؛ لم يعد الجفاف مسألة زراعية فحسب، بل أصبح معادلاً اقتصاديّاً للتضخم والركود في آنٍ، فإذا كانت حرارة الأرض قد أحرقت الحقول، فإنّ كوارثها الطبيعية أغرقت خزائن الاقتصاد العالمي، إذ تقدر الخسائر الناجمة عن الفيضانات والأعاصير والحرائق في عام 2025 وحده بمئات المليارات، وفق تقديرات المؤسّسات المالية الدولية.

وقد عملت في 1999 على تقديم ورقة عمل متخصّصة حول المعالجة المحاسبية والإفصاح المالي لتكاليف البيئة بصفتي رئيس إرشادات فريق الخبراء الحكومي الدولي المعني بالمعايير المحاسبية والإبلاغ في الأمم المتحدة؛ والتي ركّزت في حينها على ضرورة إدماج التكاليف البيئية ضمن السجلات والتقارير المحاسبية للمنشآت، بما يعكس الآثار الحقيقية للأنشطة الاقتصادية على البيئة والمجتمع، ويعزّز من شفافية التقارير المالية ودقة قياس الالتزامات البيئية.

أما شركات التأمين العالمية التي اعتادت التعامل مع الكوارث بوصفها احتمالات، وجدت نفسها أمام واقع جديد من الخسائر القياسية والتعويضات المتزايدة، فهذه الموجة من الأضرار المالية لا تؤثر في قطاع التأمين وحده، بل تمتد إلى المصارف وأسواق المال التي تعيد حساباتها في مواجهة المخاطر المناخية المتكرّرة، إذ إنّ كل إعصار يمرّ اليوم لا يترك وراءه دماراً فحسب، بل عجزاً في الموازنات واهتزازاً في الثقة الاستثمارية.

وكذلك حال سلاسل الإمداد، التي تمثل شرايين الاقتصاد الحديث، فقد أصيبت باضطرابات حادة نتيجة الطقس، سيّما أن الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق آسيا هذا العام عطّلت مصانع وموانئ حيوية تنتج المكونات الإلكترونية الأساسية للصناعات في اليابان وكوريا الجنوبية، من نتائجها تأخر الشحنات، وارتفعت تكاليف النقل، وتباطأت عجلة التصنيع، لتنعكس هذه الاضطرابات على أسعار الأجهزة والتقنيات عالميّاً، وقد باتت الأمطار في بلد آسيوي، ربما لم يسمع به المستهلك من قبل، قادرة على رفع ثمن هاتفه الذكي أو تأخير إنتاج سيارته الكهربائية، وهكذا، تداخلت الطبيعة والاقتصاد في شبكة معقدة يصعب فصل خيوطها. وقد فرض هذا التشابك المعقد على الشركات الكبرى إعادة النظر في جغرافية الإنتاج، والتحوّل نحو نموذج اللامركزية وتأمين المخزون الاحتياطي الاستراتيجي ضرورة بدلاً من كونه تكلفة زائدة، كما أن التركيز على خفض التكاليف لم يعد هو الأولوية المطلقة، بل إنّ الأولوية للمرونة والتأقلم المناخي لسلاسل القيمة العالمية، وهي نقلة نوعية في فلسفة الإدارة والإنتاج، تتطلب استثمارات ضخمة ومخاطرة محسوبة لضمان استمرارية الأعمال.

وأقول إن هذا التعديل الهيكلي يكلف مليارات الدولارات سنوياً، وهو ما يضاف إلى ضريبة المناخ غير المباشرة التي يدفعها المستهلكون والمستثمرون. وعليه؛ أصبح الارتفاع المتزايد في تكاليف الطاقة التقليدية والتأمين في المناطق الساحلية المعرّضة لخطر الفيضانات دليلاً مادياً على أن المخاطر البيئية تترجم مباشرة إلى تكلفة رأسمالية عالية.

لكن وسط هذا المشهد الملبّد بالغيوم، تبرز نقطة ضوء، وهي التحوّل نحو الطاقة النظيفة، فالأزمة التي أرهقت الاقتصادات دفعتها، في الوقت نفسه، إلى مراجعة خياراتها المستقبلية، إذ أعلن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة عن حزم استثمارية ضخمة لدعم مشاريع الطاقة المتجدّدة والهيدروجين الأخضر، في محاولة لجعل الاقتصاد العالمي أكثر مرونة أمام تقلّبات المناخ. وهذه الحزم في الحقيقة ليست دعماً فحسب، بل إشارة واضحة للأسواق بأن الاتجاه نحو اقتصاد خالٍ من الكربون هو الذي سترعاه الحكومات الكبرى، سيّما أن ذلك ما حفّز موجة من الاستثمار الخاص في تقنيات تخزين الطاقة والزراعة الذكية القادرة على التكيّف مع الجفاف.

وأقول إنّ تحويل التحدي إلى فرصة استثمارية المخرج الوحيد الذي يلوح في الأفق أمام العالم، إذ يُقدّر أن السوق العالمية للاستدامة قد تزيد عن عشرة تريليونات دولار في العقد المقبل، وهذه الاستثمارات ستخلق بدورها ملايين الوظائف الخضراء، وتؤسّس لنمو نوعي لا يهدّده تقلب الطقس بالقدر نفسه.

لم يعد التحوّل الأخضر شعاراً، بل أصبح مشروعاً اقتصاديّاً ضخماً تتقاطع فيه المصالح والسياسات ورؤوس الأموال. وفي المحصلة، استمرار آثار التغيّر المناخي يرسم أمام الاقتصاد العالمي طريقاً ذا اتجاهين: الأول مظلم، إذ يواصل العالم دفع فاتورة الكوارث والتقلبات، والثاني مشرق، فقد تتحول الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء اقتصاد أكثر استدامة. لكن المستقبل لن يُكتب بدرجات الحرارة وحدها، بل بمدى قدرة الدول على إدماج السياسات البيئية في صميم القرار الاقتصادي، فالمناخ، كما يبدو، لم يعد خلفية للمشهد الاقتصادي، بل أصبح، بحدّ ذاته، المخرج والكاتب والممثل الرئيس في مسرح النمو العالمي.

أيها السادة: ليس التحدّي اليوم في مقاومة الطبيعة، بل في فهم لغتها الجديدة وتحليل رموزها، فكل موجة حرّ أو عاصفة أو فيضان باتت تحمل رسالة واضحة: الاقتصاد الذي لا يتصالح مع البيئة لن يجد غداً يتنفس فيه.

مقالات ذات صلة