
النسخة الأردنية من الديمقراطية السامة
سامح المحاريق
حرير- بعد أيام قليلة من خطاب عرشٍ استثنائي في محتواه ووضوحه اشتمل تأكيدا على ضرورة المضي قدما في التحديث السياسي، أتت جلسة انتخاب اللجان الدائمة لمجلس النواب، لتشهد مشاجرات عمقت أجواء عدم الثقة بين المواطنين والمجلس النيابي. اشتمل الخطاب على تعبير القلق من الملك للمرة الأولى في الأردن، الذي تجنب خطابه السياسي تاريخيا أن يشيع كلمات مشابهة، ومع أن العبارة تركت مساحة للتأويل، حول مصدر القلق وذهبت إلى ربطه بالتطورات الإقليمية، إلا أن المجلس يأبى في افتتاح دورته الجديدة، إلا أن يضع أسبابا للقلق من الداخل، خاصة أن التجربة لتحديث واقع الحياة الحزبية تشهد هي الأخرى تعثرا واضحا وتحتاج إلى مراجعة شاملة.
المشهد الأردني يمكن أن ينضاف إلى مشاهد كثيرة في البرلمانات العربية، لا تتعلق فقط بأدائها، ولكن بتركيبتها من حيث المبدأ، وتضع نفسها في سياق السؤال الكبير والخطير، الذي تقدم به الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي في كتابه «هل نحن أهل للديمقراطية؟»، خاصة أن الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي أنتجه المخاض الطويل لطلائع الربيع العربي في تونس، يمكن أن يمثل نموذجا محزنا لمآلات التجربة الديمقراطية، في مجتمعات لم تنجز البنية المؤسسية ولا الوعي الجمعي، ولا الخبرة في الممارسة لإنتاج الديمقراطية والأهم من ذلك صيانتها. الديمقراطية ليست العصا السحرية، وللأسف ليس بوسعي سوى اللجوء لهذا التعبير المستهلك، ولمثال مستهلك آخر يتمثل في الهند وباكستان، بوصفهما تجربتين واضحتين لعدم جدوى الممارسة الديمقراطية، وانبتات صلتها مع غايات الدولة في توفير فرص للحياة الأفضل لمواطنيها.
تتعمق المشكلة في الأردن مع وجود شخصيات سياسية مكرسة وواسعة النفوذ ومتشعبة الصلات، يُطلب منها أن تتبنى عملية تحديث سياسي، سينتج وفقا لمبتغاه النهائي بيئة لا تسمح لهم بالوجود من جديد، وببساطة يطلق الأردنيون على هذه الشخصيات الكثيرة قوى الشد العكسي، ومع أنها لا تجرؤ على المجاهرة بمعاداتها لمقولات التحديث السياسي، إلا أنها توظف الكواليس من أجل إشاعة المخاوف من التغيير، وتشويه التجارب التي تسعى لأن تطرح نفسها بديلا، والمفارقة الكبرى، أن البيئة نفسها تنتج البديل الذي لا يملك البدائل، فخطاب الأحزاب الأردنية في معظمه إنشائي يتحدث عن أشياء كثيرة يجب أن تكون من غير أن يقدم تصورا كاملا، أو حتى غائما للطريقة التي ستحضر من خلالها، والأثمان التي يجب دفعها في المقابل، وبعضها يمكن أن يجعل الوضع العام أسوأ، لأنه سيمثل استسلاما للشعبوية وعودة لدولة الرعاية، التي أصبحت تكلفتها خارج استطاعة تمتلك من الإمكانيات ما يفوق الأردن بكثير. شهدت الأحزاب الأردنية حالة من الارتباك بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، التي دفعت بالإسلاميين لتحقيق وجود واسع في مجلس النواب، إلا أنهم يبدون بعيدين للغاية عن مخاطبة الواقع الأردني، ومنخرطين إلى حد بعيد في التجاذبات الإقليمية، وتحوم في رؤوسهم أطياف أردوغان، كما عششت صورة صدام حسين وحافظ الأسد في رؤوس البعثيين والقوميين في الأردن، وبذلك تصبح الأحزاب الأيديولوجية عبئا على الدولة بصوتها المرتفع، الذي يقارن نماذج مختلفة بالأردن في قياس مستغرق في الأهواء وحتى السذاجة العاطفية. الأحزاب الجديدة التي تأسست متحررة من الأيديولوجيا وأعبائها، لم تكن تعبر عن موقف يرى الحمولة الأيديولوجية غير مناسبة لمواجهة التحديات الواقعية والضاغطة، لأن من تدافعوا لتأسيسها عملوا على تصميمها كمنصات لإعادة إنتاج بعض الشخصيات التي تتطلع إلى عودة إلى مواقع متقدمة في بنية الدولة، وبمجرد فض صناديق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة، بدأت الأزمات الوجودية تعصف بهذه الأحزاب، وتتوالى الاستقالات داخلها، فالواقع أن اللعبة بقيت داخل معادلات الأشخاص والحصص ولم تستطع الارتقاء إلى تقديم مشروع متكامل، يفترض أن يحدث تغيرا في نمط الإدارة الذي تنتهجه الحكومات الأردنية، وأن يستثمر التمثيل الذي يحصل عليه في اتخاذ قرارات صعبة، عادة ما يجري تمييعها بدعوى عدم شعبيتها، والأثر الاجتماعي الذي يمكن أن تحدثه. ترى بعض النخب ضرورة حل مجلس النواب، والعمل على استعادة صلاحية استصدار القوانين المؤقتة، التي يمكن أن تخدم غايات مثل استقطاب الاستثمارات التي تحتاجها الأردن بصورة كبيرة، فهذه الوضعية يمكن أن تحيد الصراعات الفئوية داخل المجلس النيابي، من ممثلي بعض التيارات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية، وفي المقابل تصعد المشكلة في بنية الحكومات الأردنية نفسها والتي أسقطت مبدأ الاستحقاق الذي كان سائدا في الأردن في مرحلة الستينيات والسبعينيات، ليولد النخب السياسية المغلقة المستأثرة بالنفوذ، بل ويصبح أحيانا تعبيرا عن أمزجة شخصية وتصورات ذاتية لا يمكن أن ترتقي لمخيلة فاعلة ومتكاملة تجاه تحقيق مشروع وطني.
بدأ الأردن تجربته مع الحكومات المنتخبة في فترة حرجة من تاريخ المنطقة، ووجد نفسه في مواجهة مشروع هيمنة من مصر عبد الناصر أتبعته مضايقات النموذج البعثي في سوريا والعراق، ووصلت هذه الحالة برئيس الوزراء المنتخب سليمان النابلسي أن يتحدث لأحد الصحف الأجنبية عن حتمية تفكيك الأردن ليلتحق بدولة عربية أكبر، وكانت ممارسات الارتهان للنماذج العربية الأخرى أكبر من طاقة الملك الحسين على الاحتمال، واليوم، تسود القناعة بالدولة كبنية متكاملة ومستقلة خارج نظرية القُطر المؤقت البعثية، أو التبعية الوحدوية الناصرية، فالنتائج الكارثية لهذه التجارب أصبحت واضحة ومقروءة، على نحو واضح، ولا يمكن إعادة القرون الوسطى وأحلامها على بنية يفترض أن تستجيب للحداثة إلا في تركيب قائم على الندية في صيغ تعاون واضحة.
الأيديولوجيات العابرة للحدود، التي تعتبر الأردن ولاية تارة، ومحافظة تارة أخرى لم يعد لها مكان، وإن بقيت لها أحزاب تمثلها ولو بصورة شكلية، وبالتالي أصبح مطلوبا أن تنشأ الأيديولوجيا الوطنية التي تتنامى بمحاذاة تهديدات كثيرة للأردن والمنطقة ككل، وهو ما يجعلها نبتة يجب سقايتها وتعريضها للشمس بكثير من الحذر، ولكن السيولة التواصلية في الواقع الافتراضي وتغيب الإعلام الرسمي عن الاشتباك، يجعلها متعذرة التبلور بواقعية ويبقيها داخل فضاء خطابي منفصل عن الواقع وأسئلته الكبرى، وفي المقابل، تستأثر النخب المكرسة بمفاتيح العلب، التي يفترض أن تنتج شخصيات جديدة تحمل نزعة براغماتية واضحة وتتعامل مع التفاصيل، ولكن نهجها التواصلي يجري على وجبات العشاء في المنازل الفاخرة، وسهرات المزارع الريفية، وبين حراك متحمس يبحث عن الحلول من غير خطة، أو استراتيجية، ونخبة تمارس استراتيجية البقاء وإعادة الإنتاج، تبقى الحالة السياسية في الأردن تعبيرا عن علاقة سامة تشبه زواجا وصل إلى فصله الأخير، يستبقيه الطرفان من أجل المنظر الاجتماعي للأسرة، ولكنه فارغٍ وخاوٍ من الداخل، ويضر بالطرفين معا. يفترض بناء الحالة الحزبية، أو حتى التمثيلية أن تتواصل القواعد الشعبية مع بعضها لتخرج بالصيغ التي تتطور في شكل بنى قانونية مع الوقت، فالأحزاب كانت في الأساس منتديات للشاي، بمعنى أنها كانت روابط داخل المجتمعات تطورت إلى بنى سياسية مؤثرة تعبر عن مصالح المجتمع بكل فئاته وتتيح فرصة التداول داخلها للخروج بمشروع متكامل، ولذلك يجب العمل على تعزيز التشاركية والمسؤولية والمحاسبة والشفافية لتصبح أساسا لبناء الديمقراطية، لا مجرد وضع بنى شكلية تصبح مع الوقت حاجزا إضافيا بين الدولة والمواطنين، وطبقة وسيطة تعتاش على حساب الطرفين.
تطوير العمل الحزبي ضرورة لا يمكن التراجع عنها، ومسؤولية تتحملها الدولة بمؤسساتها كافة، لا حكومتها فقط، والانفتاح في الفضاء العام وتعزيز الثقة المتبادلة بين الفاعلين السياسيين والمجتمع متطلب أساسي. أما العقد التاريخية فينبغي أن لا تبقى عائقا مستمرا أمام التغيير، فجيل جديد يدخل الحياة العامة اليوم بأفكار تتجاوز التجارب القديمة، والعالم يوفر خبرات واسعة يمكن أن تقلل من كلفة التجربة والخطأ.



