عنصريّة سموتريتش غير قابلة للاعتذار

أسامة عثمان

حرير- بعد ساعات قليلة من إساءته للسعودية، عاد وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في فيديو، عبر حسابه على منصة إكس، وقال إن تصريحه “غير المتوقَّع والمؤسف” بشأن السعودية كان في غير محلِّه، وإنه يأسف عليه. وكانت تلك الإساءة قد جاءت في مؤتمر عقده معهد “تزاميت وماكور ريشون” الإسرائيلي، إذ قال: “إذا قالت لنا السعودية: “التطبيع مقابل دولة فلسطينية”، فعندئذٍ، يا أصدقاء، لا، شكراً لكم. استمرُّوا في ركوب الجمال في الصحراء، وسنواصل بناء قوة تكنولوجية هائلة”.

يكشف هذا الاضطراب بين أفكاره الحقيقية وما تقتضيه السياسة والديبلوماسية عن طبيعة الجهة المتنفِّذة التي يضطر الفلسطينيون والعالم للتعامُل معها، حتى وصلت تداعياتها إلى الحليف الأهم لدولة الاحتلال، الولايات المتحدة، برئاسة الرئيس دونالد ترامب الأكثر دعماً لإسرائيل، والأعمق صداقة لهم، وفق تصريحات كبار مسؤوليها، وسياسيِّيها، حين وجَّهت صفعة لنائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، في مقتبل زيارته إسرائيل، بإقرار مشروعَي قانون، بالقراءة التمهيدية، يقضيان ببدء مسار يفضي إلى ضمِّ مناطق واسعة من الضفة الغربية، وفرْض السيادة الإسرائيلية عليها. وهذا عزَّز ميل اتجاهٍ في الولايات المتحدة يرى أن إسرائيل دولة جاحدة. وخصوصاً بعد تصريحات نتنياهو في سياق موضوع الضم؛ أنَّ إسرائيل دولة مستقلة؛ ما يعني أنَّ مثل هذا النوع من القرارات يُتَّخذ وفق ما تراه هي.

تقف دولة الاحتلال هنا على مفترَق بين انغلاقها على اعتباراتها الخاصة، ولو عارضت القانون الدولي والموقف الدولي العام، الذي يرى في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة أراضيَ محتلة، ورؤية الإسرائيليين واليمين المتطرِّف أنها أرض إسرائيل. ولا يعكس هذا تعالياً على الدول العربية صاحبة المبادرة العربية للسلام، ولا على السعودية الدولة المهمة التي تقود (وتدعم) الجهود الدولية نحو إقامة دولة فلسطينية، بل إنه يؤكِّد وقوف إسرائيل في وجه العالم وأعرافه، وفي وجه ما أفرزه من مرجعياتٍ وآلياتٍ لحل النزاعات، وتجنُّب ويلاتها. وفي تصادُم واضح مع موقف ترمب، ونائبه، ووزير الخارجية ومستشار الأمن القومي مايك روبيو، حين عبَّروا عن موقف رافض للتوجُّه الإسرائيلي، بشأن الضفة الغربية.

وفي هذا السياق، تعبّر تصريحات سموتريتش عن السعودية عن الابتعاد المتنامي لدى حكومة الاحتلال الراهنة حتى عن منطق تعامُلها مع دول عربية لا تصنَّف معادية، أو متطرِّفة، فوق أنها تعبّر عن العقلية العنصرية الكامنة لدى حلفاء نتنياهو المقرَّبين. ولا تزول مثل هذه التصوّرات بالاعتذار، الكلامي، فهي السابقة، وهي الأصدق. ولن تتوقّف مثل تلك العقلية عن اجتراح مواقف منسجمة معها، في الأقوال، وفي الأفعال، وما تشهده الضفة الغربية، فضلاً عمَّا شهده القطاع المنكوب نكبة فاقت قدرة العالم على الاحتمال، يؤكِّد ذلك، إذ قالت منظمة العفو الدولية: إن أكثر من 860 هجوماً عنيفاً للمستوطنين وقعت في الضفة الغربية، خلال العام الجاري (2025). ويجري كثيرٌ من هذه الاعتداءات الهمجية، التي تفاقمت خلال موسم قطف الزيتون، أمام عدسات الكاميرات، وينقلها نشطاء ومتضامنون أجانب، بالتوازي مع شهادات سياسيين أوروبيين عن مستوى القمع والإرهاب الذي يعانيه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وسياسات الاحتلال العنصرية، المجسِّدة نظام فصل عنصري، فقد انفلتت المنظمات الاستيطانية من أيِّ عقال، حتى لا نكاد نتبيَّن الخيط الفاصل بين موقف الحكومة الاحتلالية وموقف قادة المستوطنين؛ إذ باتوا هم القوة الغالبة في الحكومة، وتقلَّصت جدّاً المسافة الفاصلة بين أداء جيش الاحتلال وزعران المستوطنين وصبيانهم.

من ضمن هذه الجماعات الاستيطانية جماعات تسلك ما يسمَّى “الاستيطان الرعوي”، وهي استراتيجية تتبعها جماعات استيطانية عبر إرسال مجموعات مستوطنين للاستيلاء على الأراضي تدريجيّاً. “وتقوم حكومة الاحتلال بدعم مليشيات مستوطنين وتسليحها للاعتداء على الفلسطينيين في تجمُّعات وقرى بدوية ودفْعهم إلى الهجرة، بعد تدمير منازلهم وحرقها، والاستيلاء على آلاف الدونمات من مراعي مواشيهم وينابيع الماء، وإقامة مستوطنات على أرضهم؛ بذريعة توفير مساحات لرعي مواشي المستوطنين”.

وبحسب تقرير مركز المعلومات الفلسطيني، فإن حركة “أمانا” المتطرِّفة تقف وراء إقامة البؤر الرعوية الاستيطانية. وتلعب جماعة “فتيان التلال” دوراً واضحاً في التنفيذ؛ إذ يتنقَّل أفرادها بقطعانهم، من منطقة إلى أخرى، بعد تثبيت بؤرهم الاستيطانية، والتي غالباً ما تبتلع آلاف الدونمات من حقول المزارعين الفلسطينيين، وتحوِّلها إلى خراب ودمار وساحات عنف مفتوحة ضد الفلسطينيين، كخطوة استباقيّة لغرض تشييد مستوطنات جديدة؛ ففي السنوات العشر الأخيرة، تحوّلت بؤر الرعاة إلى النوع الأكثر شيوعاً من بين البؤر الاستيطانية في الضفة. ويستبطن هذا الشكل من الاستيطان، وهذه الأداة من أدواته، ادّعاءات الاندماج بالأرض والبيئة، باعتماد عناصر الرعي؛ من الماشية والدواب، ونمط الإنتاج الرعوي؛ من دون أن يؤثِّر ذلك على صورة إسرائيل المتقدِّمة ومواصلتها “بناء قوة تكنولوجية هائلة”.

ولا تستهدف هذه النظرة التي كشفتها تصريحات سموتريتش السعودية الدولة، بقدر ما تكشف عن نظرته وأمثاله من المستوطنين واليمين الديني والقومي عن العرب بالعموم، وهي نابعةٌ من معتقدات عميقة، لا يبدو، بما لها من مشابِهات، أنها قابلة للتعديل، حتى باتفاقات سلام وتطبيع، تحقق لدولة الاحتلال مكاسب سياسية واقتصادية هائلة. ولم يخف قادة الاحتلال، وفي مقدمتهم نتنياهو، قناعاتهم بأنّ ما أنجزوه (برعاية ودعم أميركيين طبعاً) فيما سُمِّيت اتفاقات أبراهام، عائدٌ بالدرجة الأولى إلى قوة إسرائيل وتفوُّقها، فهو لا يؤمن إلا بالسلام من موقع الأقوى. وفيما أضرَّت تلك الاتفاقات بفلسطين وقضيتها؛ إذ أراد بها نتنياهو تجاوز الاستحقاقات المطلوبة، وقطْع الفلسطينيين عن بُعْدِهم العربي، فإن اقتراب دولة الاحتلال من ضم الضفة الغربية، يعيد وضع تلك الاتفاقات على المحكّ، ويختبر صدق مواقف عربية ربطت بين الاستمرار في اتفاقاتها مع إسرائيل والضم.

وعلى ذلك، ليست القضية تصريحات عنصرية عابرة، بقدر ما هي الحاجة الملحّة لإعادة النظر، في مجمل التعامُل العربي مع إسرائيل، وتصحيح ذلك الوضع المختلّ؛ باستجداء “السلام” عند أصحاب هذه النظرة الفوقية، التي تستضعف العرب، على العموم، شعوباً، ونظُماً، وتستدرجهم من تنازُل إلى تنازل.

مقالات ذات صلة