قمة اللانظام العالمي في شرم الشيخ

سامح المحاريق

حرير- بعد انتظار لعدة ساعات وصل الرئيس الأمريكي إلى شرم الشيخ، والسبب لم يكن خافيا على المنتظرين في موقع المؤتمر الذي يفترض أن يدشن رمزيا وقفا لإطلاق النار في قطاع غزة، ويفتح بابا للمساعدات الإنسانية التي يحتاجها نحو مليوني فلسطيني عايشوا ظروفا كارثية وكابوسية في السنتين الماضيتين.

الرئيس ترامب كان مستغرقا في تفاصيل المجاملة التي صبغت زيارته لإسرائيل وخطابه في الكنيست، وكأنه يضع إسرائيل في كفة والمنطقة بأسرها في كفة أخرى، ويبدو أن التأخير أربك المستضيف المصري، ليرتجل قاعة انتظار جمعت الرئيس السيسي بضيوفه الآخرين، وبينهم قيادات عربية وأوروبية مؤثرة في مشهد كان يفضل أن يتجاوز الإعلام المصري عن تغطيته، ويجعله من الكواليس المغلقة. تقدم ترامب بأسلوب إدارة المزادات ليتحدث عن بضاعة لا يعلم أحد مدى أهميتها، ولكن يعيش الجميع في حمى الحديث عن مزاياها، ليصنع بقوة الإحراج والعبث مشهدا لتتويج هيمنته على العالم.

قبل ثمانين سنة عايش العالم مؤتمر يالطا، الذي التقى فيه الرئيس الأمريكي روزفلت مع الزعيم السوفييتي ستالين ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل، وعلى هامشه كان كثير من المناكفات وصلت إلى حدود المكايدات ومنها مقولة ستالين لروزفلت وتشرشل: أنتم تتحدثون مثل أب وابنه، وكان يقصد بالابن تشرشل، ولم يتغير العالم منذ تلك اللحظات العصيبة، إلا في حدود تسويق ما يسمى بحدود الحضارة الأوروبية، التي كانت الحصن الذي يلجأ له تشرشل في مواجهة ستالين ومقترحاته، وهذه الحضارة التي عممت في العالم وأصبحت مرجعيته حتى في الخطاب السياسي وطقوس العلاقات الدولية شهدت انهيارها الكامل في شرم الشيخ، فالرئيس ترامب لم يتعامل مع رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر إلا كطالب مدرسة مراهق. يتغيب ستالين الجديد عن شرم الشيخ ومن ورائه التنين الصيني، ولا يبدي بوتين في روسيا أو تشي جين بينج اهتماما حقيقيا بما يحدث في الشرق الأوسط، فالروس منشغلون بسوريا، بوصفها حيزا تاريخيا، يفضل عدم التفريط به، وبالتوازي مع شرم الشيخ استضافت موسكو الرئيس السوري أحمد الشرع، والصينيون أولويتهم اقتصادية ويفضلون المتابعة من مسافة بعيدة، وهذه فرصة مثالية للرئيس ترامب من أجل التفرد بخشبة المسرح، حتى لو كان أقرب لكوميديا الستاند آب، منه لمسرحية حقيقية وتاريخية كما حدث في يالطا قبل عقود من الزمن. خرجت القمة بالكثير من الاستنتاجات وقليل من النتائج، وبدا محتواها غامضا وحياديا واتخذ شكل إعلان لحُسن النوايا، ليبقى الباب مفتوحا أمام دول تنشغل باللعبة الإقليمية مثل تركيا وإيران، وأخرى تحاول الخروج من الهوامش غير الواضحة، بتأويلات يمكن استثمارها لتعزيز رؤيتها تجاه السلام ومستقبل المنطقة مثل، الأردن وقطر، وفريق آخر بقيت أمامه خيارات مفتوحة من غير أن يجد نفسه أمام تحديد محرج، أو ثمن عاجل ومن غير أن يستشعر خطرا معينا، مثل السعودية والإمارات، ولذلك أتى مستوى التمثيل في الحالتين شكليا وقابضا على وسط العصا، والفريق الأخير من دول تدفعها الولايات المتحدة لأداء دور في المنطقة مثل باكستان وإندونيسيا.

لم يحصل أحد على شيء واضح، والفلسطينيون تحديدا لم يتقدموا خطوة واحدة، ولم تنقلهم القمة في شرم الشيخ إلى وضع أفضل، وكأن المحصلة هي أن يحصل ترامب على ما يريده من أضواء في مصر بعد أن نوقشت كثير من الأمور في الظلام في زيارته لإسرائيل، وبعد أن ينفض السامر وبناء على شكل توازنات القوة في المنطقة، يبدأ التفاوض أو التزاحم حول البناء على مكتسبات معظمها في مصلحة إسرائيل، التي أفلتت من العقاب عمليا على مجازرها وأعمالها الوحشية في غزة، وكل ما اقترفته بعد ذلك من عربدة في المنطقة. بعد شرم الشيخ وما يظهر من خواء أمريكي في مقاربة مستقبل المنطقة، وعدم قدرة الرئيس ترامب على استيعاب وضعية المنطقة في صراع عالمي مقبل، يبدو أن هذه القمة تفتح هدنة طويلة تقوم على انتظار رحيل ترامب، ووجود إدارة أمريكية تمتلك رؤية أكثر وضوحا، وتتعامل وفق منهجية محددة وليس استجابات حسية ونفسية من رئيس اعتبر قمة شرم الشيخ تعويضا نفسيا عن جائزة نوبل للسلام، ولكن إسرائيل في الوقت نفسه ستعتبر الفترة المتبقية لترامب في البيت الأبيض بمثابة الفرصة التي ستعمل على استغلالها لتثبيت أمر واقع جديد، أو تقديم حل لإسرائيل الصغيرة التي لا تلبي الطموحات الوظيفية لدولة الاحتلال.

لم يخرج أحد راضيا من القمة، والجميع لديه وعود غير واضحة على المستوى السياسي، وبعض كلمات المديح التي يبذلها ترامب بإفراط، ويمكن أن يمنحها لأي شخص يرتدي ثيابا فاخرة، ولكن عمليا لا شيء سوى افتتاح موسم جديد من الصراع الذي يمكن أن غزة لم تعد مركزه، لأن السيولة التي أنتجتها أحداث السابع من أكتوبر أصبحت أوسع من مجرد الشهوة الإسرائيلية لتقويض الوجود الفلسطيني، وأخذت تمتد لتصبح إعلانا للهيمنة على المنطقة ككل. بينما أسست يالطا لنظام دولي جديد. ينهي مؤتمر شرم الشيخ النظام القائم ويفتح العالم على فكرة مرعبة تتمثل في سقوط فكرة النظام نفسه، لينفتح الباب أمام مرحلة انتقالية صعبة ستتكشف أزماتها مع متاعب اقتصادية وأمنية وهوياتية، ويظهر ترامب في وسط ذلك، وكأنه الشرير في أفلام الرجل الوطواط في صورة درامية لم تكن لتخطر في ذهن مؤلفي سيناريو هذه السلسلة، التي صورت جنوح مدينة متخيلة للفوضى والانحلال.

على المستوى الإقليمي فالمراجعة مطلوبة، والعودة لقمة الدوحة التي أتت بعد الاستهداف الإسرائيلي لقيادات حماس في قطر، واستحضار لحظتها التاريخية وسياقها السياسي ضروري من أجل العودة إلى بناء مخيلة مناهضة للمشروع الإسرائيلي، الذي تحصل على دفعة كبيرة مع خطاب ترامب في الكنيست وشعوره بالاندماج العضوي مع إسرائيل ومشروعها، مقابل ما أظهره من استعلاء في شرم الشيخ لم يكن للمجاملات وتوزيع الكلمات اللطيفة إلا أن تخففه من غير أن تخفيه. لم يكن في شرم الشيخ أبيض، أو أسود، ولكن كثيرا من الرماد ورائحة الحرائق المقبلة من غزة غير البعيدة، ولعل ذلك يصبح هاجسا للإنسانية كلها بعد ما رأته وتابعته من عجز في المجتمع الدولي ينتهي بوقوف ترامب، لينهي الحرب على طريقته وبالصورة الشخصية التي ترضيه، وهذه هي المشكلة، فالرجل الذي ترك أنصاره يقتحمون المؤسسات الأمريكية عند خسارته للانتخابات سابقا، يمكن أن يتابع وحتى أن يحرض على مشاهد مشابهة على مستوى العالم كله هذه المرة.

مقالات ذات صلة