
حين تبحر الضمائر نحو غزة
محمد عايش
حرير- المشاهد التي تناقلتها الكاميرات للمتضامنين المشاركين في أسطول الصمود العالمي تؤكد أن العالم يشهد تحولاً جذرياً تجاه القضية الفلسطينية، وأن الرأي العام الذي ظل لعقود يُصدق الرواية الإسرائيلية ويُساندها لم يعد كذلك، وعندما نجد أن المئات من الناشطين الأجانب، مستعدون للمخاطرة بأرواحهم من أجل تقديم الدعم للفلسطينيين، فهذا يعني أن خلف هؤلاء، الملايين من شعوبهم الذين يشاطرونهم تأييد الشعب الفلسطيني.
نحو 500 ناشط من مختلف أنحاء العالم، تقاطروا للمشاركة في أسطول الصمود العالمي المكون من 44 سفينة، وهؤلاء أمضوا أياماً طويلة وهم يسيرون في البحر يحملون في قواربهم المساعدات الغذائية والدوائية والإنسانية من أجل الوصول إلى قطاع غزة، وبطبيعة الحال كان متوقعاً، بل معلوماً أنَّ القوات الإسرائيلية سوف تمنعهم من الوصول، وسوف تُغير عليهم وتعتقلهم، قبل أن تقوم بترحيلهم إلى بلدانهم، ومع ذلك كان لدى الجميع إصرارٌ كبير على المحاولة.
رحلة «أسطول الصمود»، رغم أنها لم تكن المحاولة الأولى لكسر الحصار عن غزة، لكنها الأهم، كونها تأتي خلال الحرب المستعرة ضد قطاع غزة، كما أنها بهذا الحجم وهذا الزخم استطاعت إثبات أن هذا النضال هو عمل تراكمي ونتائجه تأتي تباعاً، حيث بدأ في عام 2010، حين شاركت سفينة «مافي مرمرة» التركية في «أسطول الحرية»، وتعرضت لهجوم دموي من قوات الاحتلال الإسرائيلي، أسفر عن استشهاد 10 ناشطين وجرح العشرات، ما أثار ضجّةً دولية كبيرة في ذلك الحين. ولا شك أن ثمة العديد من الإنجازات لهذه القوافل والأساطيل، بما في ذلك «أسطول الصمود»، وفي ما يلي أبرزها:
أولاً: بعث المشاركون في «أسطول الصمود العالمي» وما قبله، رسالة مهمة إلى الاحتلال الإسرائيلي مفادها، أنهم – أي الناشطين – أصبحوا أكثر إصراراً على كسر الحصار من أي وقت مضى، على الرغم من جريمة الاعتداء على أسطول الحرية في عام 2010، التي كان يريد الإسرائيليون منها أن تكون رادعاً لهذه التحركات، وأن تكون سبباً لبث الرهبة والرعب في قلوب الناشطين المتضامنين مع فلسطين، أو من يفكرون في كسر الحصار عن غزة.
ثانياً: حقق «أسطول الصمود العالمي» أهم الأهداف التي خرج من أجلها، وهي فضح ممارسات الاحتلال أمام شعوب العالم، وإثبات أن اسرائيل تستخدم العنف والقوة المفرطة، حتى ضد المتضامنين السلميين وعمال الإغاثة الإنسانية، الذين يرغبون بإيصال المساعدات لضحايا الحرب، ما أدى ويؤدي بالفعل إلى تغيير في نظرة الكثير من الشعوب الغربية إلى إسرائيل، التي لم تعد تُرى كـ»دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط»، بل كقوة احتلال تمارس العنف ضد الناشطين السلميين.
ثالثاً: أثبت الناشطون المشاركون في هذه الأساطيل، أن العالم يستطيع التحرك من أجل مساندة الفلسطينيين، ويستطيع أن لا يقف متفرجاً على ما يجري، وأحرجت هذه الأساطيل الأنظمة العربية التي تتفرج على ما يحدث في فلسطين، بينما يتقاطر متضامنون أجانب مسالمون وعُزل، من أجل تقديم الدعم والمساندة. هذا كله يعني أن دولنا العربية تفتقد للقرار السياسي والإرادة في مواجهة الاحتلال، وليست ضعيفة أو عاجزة، كما تحاول هذه الدول أن تصور نفسها، إذ لا يُمكن أن تكون أضعف من المبادرين عبر السفن لكسر الحصار.
رابعاً: أعاد «أسطول الصمود» تعريف الحصار، ولفت الأنظار له، وأعاد التأكيد والتذكير بأنه جريمة وليس أمراً واقعاً وطبيعياً، وأنه جريمة ترتكب بحق قطاع غزة منذ أكثر من 17 عاماً، ولا علاقة له بهذه الحرب ولا بهجوم السابع من أكتوبر.
خامساً: أسطول الصمود والتحركات السلمية العالمية المشابهة، أدت إلى تشجيع حركات المقاطعة وفرض العزلة الأخلاقية على الاحتلال، حيث بدأ الكثير من الناشطين حول العالم يرون في دعم القضية الفلسطينية جزءاً من النضال العالمي من أجل حقوق الإنسان، تماماً كما كانت حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب افريقيا.
والخلاصة هي أن أسطول الصمود وما قبله من تحركات مماثلة، لم يكن مجرد عمل إنساني، بل كان فعلاً سياسياً رمزياً عالي التأثير، لأنه أظهر أن الشعوب حول العالم مستعدة للمخاطرة بحياتها لكسر الحصار الظالم، وهو ما أكسب القضية الفلسطينية دعماً شعبياً واسعاً، خصوصاً في أوروبا وأمريكا اللاتينية.