
الاعتراف أيضا قضية
بيير لوي ريمون
حرير- كنت أبحث عن زاوية مقاربة جديدة لتحليل الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية، بدل اعتماد المقاربة التقليدية المعروفة، القائمة على مناقشة «مدى التحول الاستراتيجي في السياسة الفرنسية»، مقاربة لا أراها وجيهة في التعريف بالسياسة العربية لفرنسا، وبالتالي بموقف فرنسا من القضية الفلسطينية .
فلسنا هنا في طور تصور متذبذب للزمن يوحي بأن فرنسا تبني توجهاتها الدبلوماسية على أساس حسابات وميول. أن تكون فرنسا قد نحت هذا النحو في بعض مواقف سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة، هذا صحيح، لكن الأمر كان ينم عن قصور (فاجأنا بالمناسبة) في الإدراك برهانات سياستنا الشرق الأوسطية واستشرافاتها المستقبلية.
ليس هناك «تحول استراتيجي» لأننا عدنا إلى طبيعة الأمور، طبيعة السياسة العربية لفرنسا – والمصطلح ليس لي، بل هو المصطلح الرسمي الذي يعتمده المؤرخون – تلك السياسة التي كان قد أرساها الجنرال دو غول، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده سنة 1967، والذي تجاهله كثيرون، بينما كان مؤتمرا تأسيسيا. لهذا، يجب التأكيد على أن هذه الخطوة تنخرط ضمن ثوابت سياسية، صحيح أنها بنيت على مصالح ونفوذ طبعتهما خلفية الحرب العالمية الأولى، التي كرست مبدأ تقسيم النفوذ بطابع إجرائي، وريث اتفاقيات سايكس بيكو، ثم طبعتهما بوجه أعم اعتبارات حددتها فترة نهاية حقبة الاستعمار. لكن تلك المصالح وذلك النفوذ،بنيا أيضا مميزات وخاصيات. وهنا، لا تكفي السياسة وحدها تفسيرا.. هنا، يدخل في الحساب ما يدق عن التفسير السياسي، بل حتى عن الوصف الاصطلاحي، إنها خاصية الدبلوماسية الفرنسية، خاصية النضال، نعم، أقول النضال، لأن الدبلوماسية الفرنسية في أساسياتها نضالية.
صحيح أيضا بكل تأكيد أن القرار الفعلي، الملموس، بإقامة دولة فلسطينية قرار بأياد امريكية إسرائيلية فلسطينية، إن لم نقل مع الأسف أمريكية أولا، لكن أمام اصطدامنا الراهن بعقبة التطرف اليميني المشترك بين نتنياهو وترامب، كثيرا ما أفكر في «نقاط الرئيس ويلسون الأربع عشرة» الشهيرة، التي كان قد أرسى فيها وبقوة «حق الشعوب في تقرير مصيرها» .تقوم فرنسا بإسماع هذا الصوت، ومن هذه الناحية أخذت مكان أمريكا وبقوة، ثم تداولت مفهوم الاعتراف، وتداولته زمنا قبل أن يدخل ضمن موضوعات شؤون الساعة، أوليست التمثيلية الدبلوماسية الفلسطينية مرساة منذ زمن بعيد عندنا، عبر سفرائها ومندوبيها الدائمين؟ من منا لا يعرف صوتي فرنسا الفلسطينيين البارزين اللامعين، ليلى شهيد وإلياس صنبر؟
لنعد إلى «اللحظة». اللحظة التي يصفها البعض بغير المناسبة، طالما أن «ضمانات من استبعاد حماس من المعادلة الجديدة لم تتحقق»، طالما «لم يتم الإفراج عن الرهائن» طالما «لم تقم انتخابات جديدة في القطاع «، لكن هناك من سيقول لك أيضا إن مسألة «اللحظة المناسبة» و»الوقت المناسب» ليست المسألة الأساسية، لأن اللحظة المناسبة ذريعة وعذر لتفادي الواقع، فهل نظل مكتوفي الأيدي أمام سقوط آلاف المدنيين رجالا ونساء وأطفال ضحايا القصف الأبدي والعدوان الوحشي؟ هل نسكت أمام الخطط التوسعية الاستيطانية التي أصبح معلنا الآن أنها تستهدف ضم الضفة؟ هل تستمر فرنسا في المماطلة وإمساك العصا من المنتصف إلى ما لا نهاية؟ الأمر لم يعد يطاق. كان لا بد من فعل شيء.
الرسالة الموجهة إلى الحكومة الإسرائيلية معروفة: لم نعد نثق فيكم للوصول إلى أي مخطط سلام، أنتم أعلنتم، أنتم وتشكيلة وزرائكم المتطرفين، أنكم ترفضون إقامة دولة فلسطينية منذ البداية، فعليكم السلام ودعونا نلغي أي نافذة عمل مشترك مع حكومتكم.
أما عن السلطة الفلسطينية فدعوة صريحة إلى إعادة هيكلة، إلى إعادة تنظيم لتتجدد، وهناك من يقول إن فرنسا تستطيع أن تساعد بخبرائها القانونيين في صياغة ميثاق جديد للسلطة، قد يساعد بدوره في صياغة دستور لدولة فلسطينية مقبلة. ليس هناك إذن من تحول للدبلوماسية الفرنسية تجاه القضية الفلسطينية على ضوء التاريخ، لأن تاريخ علاقات فرنسا بالعالم العربي، عكس دائما حركية دبلوماسية باتجاه إقامة دولة فلسطينية مستقلة سيادية. لكن ربما نعم، على ضوء تطورات شؤون الساعة المتسارعة، يمكن اعتبار الموقف الفرنسي تحولا ذا وزن يروم الدفع بالقاطرة الدبلوماسية قدما. الخطوة رمزية في معيار من بيده القرار الجوهري في الموضوع، أي الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هناك تحولا استراتيجيا للدبلوماسية الفرنسية، لو قسناه على معيار دعوة التعجيل بصنع التاريخ، يصبح حاسما، وهو التكريس الملموس لطموح فرنسي فريد، طالما راود دبلوماسية بلدي، طموح يدرك جيدا الفرق والفارق بين الاعتراف بدولة وإنشائها، لكنه لم يتخل يوما عن الجعل من الاعتراف قضيته، فدوما ننسى أن الاعتراف أيضا قضية.