براك يصدمنا بالحقيقة

فهد الخيطان

حرير- بدت تصريحات السفير الأميركي ومبعوث ترامب لسورية توم براك، صادمة للكثيرين في العالم العربي، لا أعني ذلك الجزء المتعلق بالنظرة لإسرائيل ومكانتها في الإستراتيجية الأميركية، أو النظرة للحلفاء العرب، مقارنة مع إسرائيل، إنما الجزء الخاص بتقييمه لواقع الحال في الدول العربية وحالة مجتمعاتها.

لا شك أن براك كان في كلامه قاسيا لا بل انطوى قوله على إهانة بالغة لتجربة العالم العربي منذ الاستقلال قبل عقود طويلة وحتى يومنا هذا. لكن براك لم يجاف الحقيقة في كل ما قاله. ربما مبعث صدمتنا كعرب أنه قدم صورة كاشفة، لحال الدولة الوطنية في عالمنا العربي، التي أخفقت في معظم دولنا العربية، في الانتقال بالمجتمعات من مرحلة ما قبل الدولة إلى مستوى الأنظمة الحديثة، التي تخطتها أغلبية الدول في العالم.

الأنظمة التي انبثقت من مرحلة الاستعمار الأجنبي، لم تصمد طويلا على مسار التحول إلى دول حديثة تقوم على المؤسسات وسيادة القانون والمواطنة، وظلت أسيرة الهويات التاريخية لمجتمعات ما قبل الدولة.عقد أو أكثر بقليل، حتى انهارت تجارب التحول الحداثي، ودساتير الدولة المدنية العصرية، لتسقط في قبضة الجنرالات،وحكم الفرد الواحد.

ورغم خيبات التنمية، والهزائم العسكرية في حروبها مع إسرائيل، تمكنت معظم أنظمة المشرق من الصمود في وجه رياح التغيير، وانتصرت إرادة السلطة على الدولة والمجتمع.وبحكم طبيعتها الاستبدادية، نجحت في كبح جماح القوى الاجتماعية، وإعادتها إلى مربع الطائفية والمذهبية، والتابعية، وفق اعتبارات ومصالح السلطة الحاكمة.

وحين انفجرت هذه المجتمعات؛ إما بفعل تدخل خارجي كالاحتلال الأميركي للعراق، أو بسبب انفجار اجتماعي داخلي، وجدنا أنفسنا أمام مجتمعات مسكونة بالهويات الفرعية والولاءات الطائفية والدينية والمناطقية، وكأنها كانت تعيش كجزر معزولة داخل الكيان الواحد. مجتمعات ونخب عاجزة تماما عن تجاوز فكرة المحاصصة، وثقافة القبيلة والطائفة، وناكرة تماما لمبدأ المواطنة الذي تبدى وهما، وتبخر عند أول اختبار مفصلي.

ما كان يعرف بثورات الربيع العربي،تحول إلى نقمة على المجتمعات التي اندفعت للشوارع وهى تأمل بالتغيير، لتصطدم مع نفسها وثقافتها المتأصلة، وتعود لإنتاج ذاتها، بنفس الطريقة التي تشكلت عليها قبل مئات السنين؛ طوائف وإثنيات وقبائل، يتقدم انتماؤها للهوية الأولى على سواه من الولاءات الوطنية.

سقط الجميع في فخ المحاصصة من جديد، وصار العسكر هم البديل لتأمين طوق النجاة من فخ الحروب الأهلية الدامية.

الولاءات البدائية التي تحدث عنها براك، هي التي قفزت للسطح مجددا. لكن ما لم يقله براك، هو مدى تورط القوى الكبرى التي رسمت الحدود وانتجت الكيانات فيما وصلنا إليه.

لا نهدف من وراء هذا الاتهام تبرئة أنفسنا كعرب من حالة الانحطاط التي يعيشها عالمنا، بل تحديد الأطراف المتورطة فيما وصلنا إليه.

لقد رسمت تلك القوى الاستعمارية خرائط الدول، وساهمت في صناعة نخبها وفق رؤية لا تمنح معها لهذه المجتمعات فرصة التحول السلس لدول حديثة. فكان من السهل الانقلاب على الدساتير التي خلفها الاستعمار، والتأسيس لكيانات قائمة على مصالح متضاربة بين قواها الاجتماعية، بما يجعلها دائما في حاجة لدعم خارجي، تنتصر فيه على منافسيها من أبناء الوطن.

وحين ترك لهذه المجتمعات فرصة الانفصال عن مستعمريها، لم تجد ما يحافظ على وجودها واستمرارها، سوى ما كانت عليه قديما من هويات وانتماءات.

ذلك حال دولنا، باستثناء قلة ناجية من ظلام يلف مستقبل الأغلبية. توم براك لم يظلمنا في تقييمه، نحن من ظلمنا أنفسنا وما نزال.

مقالات ذات صلة