
فقاعات دونالد ترامب
عبد الحليم قنديل
حرير- دونالد ترامب رجل لا يغلق فمه، ويكذب في الشهيق وفي الزفير، وقد فكرت أن أصفه بالكذاب المتسلسل قياسا إلى «القاتل المتسلسل»، وهو مصطلح يشير في عالم الجنايات إلى شخص معقد نفسيا أو جنسيا، يرتكب جرائم قتل متعددة وبالطريقة ذاتها، وبفواصل زمنية متفاوتة، وقد لا تنكشف كل جرائمه حتى بعد إعدامه.
وسرعان ما وجدت أن الوصف مع القياس المذكور، لا ينطبق بدقة على حالة الرئيس الأمريكي الصاخب دائما، فهو لا يقتل الحقائق بالتقسيط، ولا يترك لنفسه وقتا بين كل كذبة وتاليتها، وإنما يعيش بالكامل في فقاعة من صنع أوهامه، وسجله الجنائي معروف، وقد أدين وقت ترشحه الأخير بالتزوير في 34 شيك رشوة، دفعها لشراء صمت ممثلة إباحية، ولم يكن له من دفاع إلا أن اتهم الجميع قضاة ومدعين ومحامين ومحلفين بالكذب والتزوير، والزعم بأنه أنقى من قطرة الثلج، ولم يعقه ذلك كله عن الفوز برئاسة البيت الأبيض للمرة الثانية، وربما دفعه الفوز، رغم التزوير والتدليس، إلى اعتناق الكذب كعقيدة ووصفة نجاح مذهل، وقد تحدث أخيرا على منبر الانعقاد السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، واستغرق خطابه المطول مدة 56 دقيقة، كذب فيها 56 مرة على الأقل، ومع كل كذبة متبجحة، كان يقول إنه ينطق بالحق وحده، ويتصرف كالمريب الذي يكاد يقول خذونى، وكاد يقول لقادة وممثلي دول العالم الحاضرين، أنا ربكم الأعلى والمبعوث هداية للعالمين الضالين.
ولو كان مخترع الديناميت عالم الكيمياء السويدي الشهير ألفرد نوبل علم ما يخبئه الغيب، لكان خصص بعضا من ثروته لإنشاء جائزة الكذب، وجعلها حكرا على ترامب وأمثاله، وهو ما لم يرد ببال ولا على خاطر نوبل، الذي أوصى تكفيرا عن ذنوبه بتخصيص غالب ثروته لإنشاء جائزة نوبل للسلام، التي لا يكف ترامب أبدا عن طلبها لنفسه، ويكرر بغير ملل ولا كلل أنه صانع السلام، وأنه أنهي سبع حروب في سبعة شهور من توليه رئاسته الثانية لأمريكا، بينها حروب لم تقم أبدا إلا في خياله، مثلما زعم عن إنهائه حربا بين مصر وإثيوبيا، وهي حرب لم تنشب إلا في هلاوس ترامب، فلم تحدث أي مواجهة عسكرية بين القاهرة وأديس أبابا إلى اليوم، اللهم إلا إذا كان يقصد أنه يريد أن تقوم هذه الحرب ليطفئ نارها، أضف لما قاله عن تدخله لوقف حرب إيران وإسرائيل، مع أنه هو نفسه كان طرفا مباشرا في الحرب، ثم هو يحدثك عن حروب خمدت منذ سنين، وينسب لنفسه الفضل في وقفها، رغم أنه لم يكن موجودا كرئيس، لا وقت الاشتعال ولا وقت الزوال، على طريقة جمعه لرئيس أذربيجان ورئيس وزراء أرمينيا في حضرته البهلوانية، والتقاط صور تذكارية في المكتب البيضاوي، وهو ما فعله مع قادة دولتي رواندا والكونغو الديمقراطية، وادعاء أنه أوقف حربا أهلية قبلية عبر الحدود متصلة من عشرات السنين، رغم أن نزاع الدولتين هدأ قبلها باتفاق رعته دولة قطر، ثم تصل مشاهد الكذب الكوميدي إلى ذروتها، مع ما زعمه عن دوره الحاسم في وقف اشتباك حربي دام لأيام بين الهند وباكستان، وكانت الهند هي التي بدأت بإطلاق النار، وظهر في الاشتباكات الجوية مدى التفوق الباكستاني المدهش بأسلحة صينية، ثم تجاوب المتحاربان مع مساعي دبلوماسية متعددة الأطراف، لكن ترامب يرى أنه وحده، الذي أوقف الحرب القصيرة، وتوالت اتصالاته مع صديقه القديم ناريندرا مودي رئيس وزراء الهند، وطلب منه ترشيحه لنيل جائزة نوبل، وهو ما رفضه مودي علنا، ونفي أن يكون للرئيس الأمريكي دور في وقف الحرب، ورد ترامب بفرض رسوم جمركية عالية بنسبة 50% على الواردات من الهند، واتهم مودي بالخيانة والتحالف مع الصين وروسيا .
ولم ينس ترامب خصومته الداخلية مع سلفه جو بايدن، وراح يصفه بأبشع النعوت من فوق منبر الأمم المتحدة، ويكيل لنفسه المدائح، وأنه أوقف سيل الهجرة غير المنظمة إلى أمريكا، وجعلها صفرا، وحمى من سماهم بالمواطنين الأمريكيين الأصليين، رغم أن أمريكا بالبداهة هي أصلا دولة مهاجرين، وأن ترامب نفسه من سلالة مهاجرين، وقبل أيام من وقفته على منبر الأمم المتحدة، كان يزور بريطانيا تلبية لدعوة ملكية، وتفاخر بأن والدته ولدت وعاشت في اسكتلندا البريطانية، وهو ما كشف نزعته العنصرية الاستعلائية في تصنيف المهاجرين، فهو يرى كجماعته، أن أمريكا ملك حصري لجماعة الواسب، أى البيض الأنكلوساكسون البروتستانت دون غيرهم، فهم رعاة البقر الذين أبادوا سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر، وهو يريد إغلاق باب الهجرة على من هم دونهم، وبدت القصة ظاهرة في فقاقيع كلماته فاجرة الكذب، حين زعم أن الدين المسيحي هو الوحيد الذي يجرى اضطهاده في العالم، وأن الشريعة الإسلامية تحكم لندن، بسبب عمدتها ذي الأصل الباكستاني صديق خان، رغم أنه لا أحد عاقل يصدق أن شخصا بسلوك ترامب وسيرته، يمكن أن يكون مثالا على صلاح ديني من أي نوع، وبدت همجيته أكثر ظهورا مع دعوته لأوروبا أن تحذو حذوه، وأن تطرد مهاجريها جميعا، وبالذات من ذوى الأصول الملونة ومن المسلمين بالذات .
وفي أوكازيون وبوفيه الكذب المجاني، راح ترامب يسخر من العلم والعلماء، ويكذب كل أحاديث ودراسات التغير المناخي والاحترار العالمي، ويمحو بجرة لسان كل مساعي الاقتصاد الأخضر والبيئة النظيفة، ويدعو أوروبا إلى ترك مصادر الطاقة المتجددة، ويظهر حماسا لمصادر الطاقة التقليدية الأحفورية، ودون أن يكشف السبب الحقيقي التجاري لاستهزائه بطاقة الرياح وطاقة الشمس، فهو يريد لأوروبا أن تشتري كل حاجاتها من البترول والغاز الطبيعي من أمريكا حصرا، وأن تكمل انصياعها لرغباته، وأن تدفع أكثر لواشنطن، وقد فعلت أوروبا لسنوات طويلة فائتة، ودمرت اقتصادها لشراء خاطر أمريكا، ودفعت أسعارا لشحنات الغاز الطبيعي المسال الوارد عبر المحيط الأطلنطي، وبما يفوق ستة أمثال ما كانت تدفعه لشراء الغاز الطبيعي المتدفق عبر الأنابيب من روسيا، ولم يخف ترامب رغبته في توقف أوروبا تماما عن استيراد البترول والغاز الروسي، وعبر عن ضيقه المكتوم والظاهر من التفوق الصناعي والتجاري الصيني، وادعى أن الصين هي التي تخوف أوروبا من تغيرات المناخ وبصمات الكربون، وادعى أن أمريكا بقيادته القوية تخلصت تماما من هذه المخاوف، واجتذبت في ثمانية شهور نحو 17 تريليون دولار استثمارات صناعية، وهو رقم فلكث من تهيؤات ترامب، وما من مصادر أمريكية يعتد بها تؤكد الرقم الخرافي، فمعدلات التوظيف الشهرية آخذة في التناقص، والإحصاءات المعلنة لآخر الشهور تقول، إن عدد الوظائف المستجدة نزل إلى 20 ألفا شهريا، وقد أطاح ترامب بالمسؤولة عن إعداد الإحصاء، وكان ذنبها أنها قالت كلاما لم يعجبه، كذنب خبراء الاقتصاد الذين حذروا من أحوال الركود، ومن قرارات ترامب المنحازة لقلة الأثرياء والمليارديرات، وبينهم عائلته التي كسبت ثمانية مليارات دولار في الثمانية شهور الأخيرة وحدها، إضافة للسخرية المريرة من احتقار ترامب للعلم، ومشهورة هي نصيحته الجهولة للمصابين بوباء كوفيد ـ 19 بشرب الكلور، من أجل التعافي بسرعة، وكانت أمريكا مع نهاية عهده الأول أكبر ضحية للوباء العالمي، وهو ما يعتبره ترامب ـ ضمنا ـ مصدر فخر عظيم، ربما لأن أغلب الضحايا كانوا من ذوى الأصول الافريقية واللاتينية .
نعم، ترامب يكذب، ويعرف أنه يكذب ولا يبالي، وكل ما يعنيه أن يواصل تقديم فقرات البلياتشو على أي مسرح يصادفه، ويتصور أن أكاذيبه هي الحق المبين، ولا نهاية للأمثلة على كذبه التلقائي أو المستعار، خذ عندك ـ مثلا ـ ما قاله عن عاصفة اعتراف دول غربية كبرى بالدولة الفلسطينية، طبقا لإعلان نيويورك الشهير، فلم يجد ما يقوله سوى استعادة أكاذيب بنيامين نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، وهاجم الاعترافات بدعوى أنها مكافأة لحركة حماس، مع أن الإعلان المعترف بالدولة الفلسطينية طبقا لنصوصه، يذهب إلى استبعاد حماس بالذات من كل شيء يتعلق بالدولة الفلسطينية المفترضة، وإلى نزع سلاحها وسياستها تماما، ولأن ثقافة ترامب سماعية غالبا، ولأن جرأته في الكذب لا تبارى، فقد اختار أن يكذب باسم الدولة العظمى التي يترأسها، ولم يجد في نفسه حاجة لتأليف سبب يخصه، واكتفى بنقل كذبة نتنياهو حرفيا، مع كلام ببغاوي عن السلام الذي تفرضه القوة، فلا يقنع أحدا .