
أين حراكات الشعوب العربية من أجل غزه؟
جواد بولس
حرير- شهدت معظم المدن الإيطالية في الأيام الماضية سلسلة من المظاهرات الشعبية الصاخبة، المنددة بالحرب الاسرائيلية على غزة، والمُناصرة لفلسطين ولشعبها. وقد انضمت هذه المشاهد إلى ما يشكّل حالة تضامن شعبية واسعة، غزت معظم دول العالم من نيوزيلندا وأستراليا القصيّتين، مرورا بمعظم الدول الإسكندنافية والأوروبية وغيرها في القارات الخمس.
لم تستطع تلك الشعوب أن تنام بهناء والدم الفلسطيني ينزف، من شاشات تلفزيوناتهم، في غرف نومهم؛ ولا أن يمضوا في رتابتهم اليومية بصمت، وصراخ جثث أطفال غزة، تملأ السماوات فوقهم. كانت أشلاء قتلى الطائرات والدبابات الاسرائيلية تتطاير أمام أعين العالم، وتزيل عنها غشاوةً أعمتها منذ مئة عام ونيف، وهو عمر الجرح والتيه الفلسطينيين.
ما يحدث في الكثير من بقاع الأرض يبشّر بولادة قراءات جديدة لتعريفات ومفاهيم «تصلبت شرايينها» منذ عقود. من بين هذه القراءات الأولى تبديل هوية الضحية التي احتكرتها إسرائيل، منذ قرن من الزمن، بغزة وأمها فلسطين. لم يحدث هذا التغيير صدفة أو بقدرة قادر، أو لاستفاقة عجائبية في ضمائر البشر، بل كانت مشاهد القتل اليومي المروّع، والدمار العبثي «مهاميز» واخزة لضمائر الذين خرجوا عن صمتهم «ومنظِّمات» نبض قلوبهم المعطّلة. إنها غزة الذبيحة، التي تعيد للبشرية قدرتها على قراءة التاريخ، عندما تكتبه الأرواح المعذبة وعندما تحاول أن تمسخه شهوات الشر المطلق. إننا نشاهد إرهاصات ملتبسة وحسب، ويبقى مصير الآتيات معلق «بظهر الغيب»، والأماني الفلسطينية تلهث على دروب الآلام؛ فتاريخ السياسة علّمنا أن ليس بالعواطف وحدها تستعاد الحقوق، ولا باللجوء لموازين القيم والأخلاق، إذا لم يرافقها فعل وحراك. لم تقتصر ردود الفعل المنددة بجرائم إسرائيل على الاحتجاجات الشعبية والنقابية، وأنشطة المجتمعات المدنية في العديد من دول العالم؛ فهذه الحركات الشعبية دفعت حكوماتها للتحرك والخروج عن مواقفها التقليدية الداعمة لإسرائيل، والتحول إلى دعم حق الفلسطينيين بتحقيق مصيرهم، وإقامة دولتهم، كما حصل في التصويت الأخير على «إعلان نيويورك» في الأمم المتحدة. من الملاحظ انه عندما كان زخم الاحتجاجات في دول كثيرة يزداد، كان غياب حراك الشعوب العربية محبطا وموجعا؛ فلماذا غابت تلك الشعوب عن شوارع وساحات عواصمها ومدنها؟
لا أسأل عن أدوار الأنظمة والحكومات العربية، التي راوغت تاريخيا في استخدام القضية الفلسطينية، كمسكنات أمام شعوبها أحيانا، وكورقة ضغط تعزز مكانتها في معادلات القوى الإقليمية وكف شر إسرائيل عنها، أحيانًا أخرى. لا أسأل لأنها أنظمة عاجزة وفاشلة، وتعاني من عقدة شرعياتها المهزوزة، وتعيش دوما «كأن الريح تحت عروشها»، ما يدفعها للجوء والاحتماء بأحضان «عرّابيها».
نحن، في فلسطين، نعرف قصة «العروش والممالك» في تاريخ العرب والمسلمين الحديث، ونعرف أيضا كيف عانت شعوب تلك الممالك؛ فعندما تضج شوارع لندن وباريس وميلانو وواشنطن، بمئات آلاف المحتجين على جرائم إسرائيل، نجد عواصم ومدن العرب غارقة في متاهاتها وخوفها.
لماذا؟
لأنها شعوب تعيش في مواجهة أنظمة تبنت سياسات الترهيب والقمع. فبالخوف يتربّى المواطنون ويدجنون ويعيشون داخل مربعات رسمتها لهم قوى الأمن في تلك الدول، وداخل هوامش تتيح لهم فرص التحرك والنضال بحكمة وباتزان. لقد شاهدنا أحيانا مظاهرات كبيرة تجوب شوارع العواصم العربية، لكنها كانت حراكات «مهندسة» وفق معادلات متفاهم عليها، ضمنيا وتقليديا، بين الذين قادوها وشاركوا فيها، وبين اجهزة امن تلك الدولة وحكامها. وهي مظاهرات اجيزت بهدف «تلميع» تلك الأنظمة من جهة، ولإتاحة فرصة تنفيس غضب الشعوب المقهورة بجرعات نضالية محسوبة، وفق مساطر ميكيافيلية، من جهة أخرى.
ولأنها شعوب ولد أبناؤها وتربوا في أحضان تراث سياسي وديني علّمهم، جيلا بعد جيل، على أن طاعةً «أولي الأمر» هي أمر رباني لا يجوز نكثه، ويجب على المؤمنين احترامه. فرغم اختلاف الفقهاء حول مفهوم «أولي الأمر» وبأي شروط يطاعون، نجح حكام المسلمين في ظروف تاريخية محددة عاشتها «الأمة»، خلال السنين، وبإسناد من وعاظهم، بتثبيت المعنى بأن «أولي الأمر»، الذين ورد ذكرهم في الإية 59 من سورة النساء، هم حكام البلاد وسياسيّوها وطاعتهم وطاعة علمائهم/مفتيهم واجبة، أسوة بطاعة الله ورسوله. لقد رسخت هذه العقيدة في «جينات» أمة باتت تؤمن بأن طاعة «الحكام» على اختلاف مواقعهم، هي من فروض الإيمان السليم، وإحدى التذاكر لدخول الجنة، فصار الصمت ملاذا وحكمة, وعصيان الحكام مغامرة تؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة.
ولأنها شعوب تعيش حالة من اليأس المزمنة، فإنها تأوي إلى ظلالها؛ شعوب حافظت على تقاليدها المورورثة وهوياتها القبلية، وعلى ذاكرتها المسكونة بالنكبات وبالمآسي وبالفتن وبالاقتتالات؛ سواء ما تخثر في ذاكرتها من قبل ولادة الإسلام، أو تلك التي بعثتها لحظة إعلان أبو بكر عن وفاة الرسول، في سقيفة بني ساعدة، حيث كان الأنصار يجتمعون للتباحث بمن سيخلف الرسول. لا حاجة للاسترسال في ما حدث وقتها، ولا ما جرى بعده، فتاريخ الشرق منذئذ كان «كله محنة» وانقسامات، خلّت شعوبه/ مجتمعاته/قبائله تعيش بقناعة عنوانها «اللاجدوى»، من أي مغامرة كبرى ولا مراهنة على فعل جماعي، سوى فعل يضمن الآخرة. هكذا توالدت ملل الشرق ونحله وحروبه منذ «فتوحات الشام» الأولى وحتى فتوحاتها في القرن الحادي والعشرين.
ولأن أولويات أبناء أغلب الشعوب العربية والإسلامية الفقيرة هي، السعي وراء لقمة عيشها ومأوى يسترها، يصبح الانخراط في قضية حارقة كبرى كقضية فلسطين، مغامرة خطيرة وتحدّيا «لأولي الأمر» غير محمود العواقب.
خلاصته، في الغرب يستطيع المواطن أن يتظاهر متحدّيا إرادة حكومته بلا خوف من اعتقال في «قوقعة» قد يُنسى فيها إلى يوم الدين. وفيه نقابات عمالية قادرة على تنظيم قطاعات وشرائح مجتمعية واسعة، وتفرض حالة شعبية مؤثرة كما حصل في مدينة جنوى الإيطالية مع عمال الموانئ، وفي مدن غربية مختلفة.
وفي الغرب مراكز ثقافية كبرى ومبدعين وجامعات عريقة يحافظون جميعهم على منظومات أخلاقية ثابتة ومواقف إنسانية راسخة فيقفوا، دون خوف ضد جرائم إسرائيل، ومع فلسطين وشعبها.
وفي الغرب تبقى مكانة قيم العدالة العالمية وحقوق الإنسان حاضرة، حتى إن مورست في بعض الحالات بشكل انتقائي وضعيف، إلا أن ثباتها في الثقافة العامة يفضي إلى اندفاع الحراكات الشعبية الضخمة ضد الظلم السافر، والقتل المتوحش والشر المطلق. لا تعتبر مشاهد الاحتجاجات التي نشاهدها في الدول الغربية وقلب الموازين، إدانة فاضحة لسياسة إسرائيل ولجرائمها وحسب، بل هي شهادة دامغة على عجز الشعوب العربية وقصورها التاريخي في إنقاذ فلسطين وحماية شعبها من المذابح.