العدوان على قطر: تحول الرؤية الإسرائيلية

سامح المحاريق

حرير- تفاعلت أبو ظبي بإيجابية بعد الضربة الإسرائيلية التي وجهت إلى قطر، ليتوجه رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد إلى قطر، ويجتمع بأميرها تميم بن حمد، ويبدو أن الموقف الرسمي للإمارات المرتبطة بالاتفاق الإبراهيمي مع الجانب الإسرائيلي، يقارب بخطوات حذرة عملية استدارة في ظل انكشاف انفلات السلوك العدواني لليمين الإسرائيلي، بصورة أحرجت حلفاء تقليديين لدولة الاحتلال، وأتت تصريحات رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور، التي دعت إلى تطبيق حظر جوي على الطيران الإسرائيلي لتكون تحركا في هامش المناورة الذي تؤسسه الإمارات، مع وجود توقعات لمزيد من الأفعال الاستفزازية من إسرائيل.

الحبتور نفسه كان من المتحمسين لاتفاقية التطبيع، التي وقعت في الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولا يمكن تفسير نقلته إلى النقيض من ذلك، إلا بوصفه تعبيرا غير مباشر وغير رسمي عن الضيق الذي تستشعره الإمارات، خاصة بعد تزايد الأصوات المنادية لضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، بما يعني، مع المحاولات القائمة لتهجير أهالي قطاع غزة وإعادة احتلاله، انتفاء افتراض أساسي للاتفاقات الإبراهيمية التي طرحت نفسها بوصفها مدخلا لتحقيق السلام في المنطقة، بحيث تتنازل إسرائيل سياسيا وبصورة تدريجية، مقابل مكتسبات اقتصادية تصبح مع الوقت جزءا من النسيج الوجودي لإسرائيل، التي يفترض أن تصبح المنصة الأساسية للتبادل التجاري بين الهند وأوروبا.

يسقط افتراض الحلول السياسية من المدخل الاقتصادي، وتثبت إسرائيل من جديد أنها لا تستخدم أي اتفاقية سلام، إلا لإعادة ترجمتها بما يخدم مصالحها المنفردة، ومهما ألحقت من ضرر بالطرف الشريك في عملية السلام، ويبدو أن الضمانات الأمريكية ومنطق الصفقات الكبرى وتسويقه أمريكيا كان يتغيب بهذه الحقيقة البسيطة وشبه البديهية، التي أثبتت نفسها المرة بعد الأخرى منذ زيارة الرئيس المصري السادات إلى القدس في نوفمبر 1977.

لم تكن ضربة الدوحة مجرد خطوة إسرائيلية متعجلة، بقدر ما مثلت تحولا في نظرة إسرائيل للمنطقة، فالظروف التي دفعتها إلى عقد الاتفاقات وتسويق التطبيع مع الدول العربية، لم تعد قائمة بعد تحييد حزب الله، وإزاحة النفوذ الإيراني عن سوريا، وما كان يمثله الممر الهندي من مشروع طموح أمام إسرائيل، يمكن أن يعوض من خلال ممر داود، أو تسوية أخرى في فضاء نفوذ جديد يتطلع اليمين الإسرائيلي إلى تحقيقه، من خلال إسرائيل الكبرى، وطالما أن إسرائيل خسرت أوراقا كثيرة من أكذوبة مظلوميتها في المنطقة، فالعدوانية أصبحت ضمن خياراتها، واليمين الإسرائيلي يطرب لهذه المشروعات التي تتسق مع خطابه المتطرف. كما يظهر البحر الأحمر بوصفه خيارا إسرائيليا، وتحت جناح النزعة العدوانية الجديدة، بعد تحييد الحوثيين في اليمن، وإبقاء مصر والسودان غارقتين في المشكلات ذات الطبيعة الأمنية والاقتصادية، وتبقى السعودية التي يلحقها الحرج الكبير من الضربة في صورتها الرمزية والعودة إلى وجود تهديدات جدية لدول الخليج العربي، ولذلك توجهت الرياض إلى إبرام اتفاقية للدفاع المشترك مع باكستان، ما يعني ضمنيا أن إيران لم تعد مطروحةً بوصفها الدولة المقلقة لأمن الخليج واستقراره. تجاهلت المقدمات الهشة للاتفاق الإبراهيمي طبيعة عقيدة التفوق المزدوجة في إسرائيل، فمن ناحية تبقى التصورات الإسرائيلية قائمة على فكر استعماري تقليدي، ومن ناحية أخرى، يوجد التفوق الذي يتغذى على أسطورة شعب الله المختار، بمعنى عدم إمكانية اعتراف إسرائيل بندية أي طرف عربي تعقد معه اتفاقيات للسلام، فهي تتوقع التنازلات الدائمة لمجرد حصوله على السلام المجاني، الذي ليس بالضرورة أن يؤسس لتنازلات من الجانب الإسرائيلي، وهذه المعادلة المبطنة، التي كانت تذوب داخل الشعور بالاختراق الاستراتيجي لصراع وقف طويلا عائقا أمام تقدم المنطقة، تفصح عن نفسها بوضوح بعد الاعتداء على دولة قطر، التي وجدت نفسها محطا لاتهامات نتنياهو بأنها تفرض عزلةً على إسرائيل في مجال الشرعية والإعلام الجديد.

هل كانت حركة حماس هي المستهدفة أم دولة قطر وما تشكله من تعبير عن الخليج ومصالحه ورؤاه؟ ما يستوجب الانتباه أن إسرائيل تفصل بين الصراع مع حماس، والمستجدات التي جعلتها تقدم نموذجها للقوة المنفلتة في المنطقة، خاصةً بعد المواقف الأمريكية السلبية، وما يعتريها من ضبابية وتجاهل لفكرة الخليج بأكثر من كونه فضاءً جغرافيا يمكن مقايضته بمواقع أخرى للتمركز وبمقاربة جديدة في التعامل معه يمكن أن تفرض نفسها في حالة تمكنت من إزاحة النظام في إيران تجاه نظام حليف آخر يستكمل الوكالة في النفوذ على المنطقة، مع ما تحققه إسرائيل عمليا على الأرض. توجد أطياف من التهديد بين المباشر الذي يستهدف دول الطوق بالدرجة الأولى، وغير المباشر الذي يمتد لدول الخليج العربي بوصفها المتحكمة في المداخل التجارية لإسرائيل، وتتراوح استراتيجية إسرائيل بين خلق حالة من عدم الاستقرار تجعلها خارج المنافسة، أو فرض واقع جديد يمكّن إسرائيل من السيطرة على مسارات لا تستلزم وضع الخليج على الخريطة. ممر داود الذي يمتد من جنوب سوريا ويتطلع لطريق يعبر العراق، لم يعد مجرد طوق أمني تسوقه إسرائيل، بل منظومة تغيير كبرى تجاه مسارات جديدة، وهذه المسارات تضع تركيا أيضا في المواجهة، وباكستان البعيدة جغرافيا، بطريقة أو بأخرى. يمكن في هذه المرحلة استحضار مقولة وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل، الذي تحدث عن نظرية أمن إسرائيلية تمتد من أفغانستان إلى المغرب، لتصبح فكرة الاقتصاد مدخلا للسلام غير مطروحة، لأن إسرائيل تتطلع للتمدد تجاه آسيا في مناطق نفوذ جديدة تصبح ترجمة لأحداث الأشهر الأخيرة والحديث عن الحروب متعددة الجبهات، ووضع ما يمكن وصفه بالإرهاب، وفقا للرؤية المنفردة لإسرائيل ذريعة من أجل تنفيذ مخططاتها واسعة المدى.

عندما تحدث الرئيس الأمريكي عن الحجم الصغير لإسرائيل كان يعبر عن ضرورة أن تستحوذ إسرائيل على مزيد من الأرض والنفوذ كذلك، لتصبح مجديةً في مشروع مستقبلي واسع ومهيمن، والمطلوب حاليا هو الارتفاع بتكلفة المشروع إلى حدود لا يمكن تحملها، أو تصبح غير قابلة للتبرير أمريكيا، من خلال إجراءات عربية وإقليمية واسعة يمكن أن مقترح الحبتور يشكل تصورا مبدئيًا لتطبيق عملية تضييق متعددة المستويات على إسرائيل.

الضربة في الخليج أحدثت نقلة جوهرية في رؤية الخليج للاستقرار، الذي يعتبر عاملا أساسيا في منظومته، غير قابلة للمساومة، بل وكل تفاعلات دول الخليج ومواقفه لا يمكن تفسيرها خارج الرغبة في الاستقرار والنأي بالمجتمعات الخليجية عن التهديدات الأمنية، لاعتبارات تتعلق بالظروف السائدة، ولكن الضربة هذه المرة تتأتى في ظل حالة من السيولة في المنطقة العربية، بحيث يتطلب استجماع رؤية جديدة وقتا طويلا وإجراءات معقدة يجب أن تقوم على معالجة كثير من المشكلات المرحلة في اليمن والسودان وليبيا. ضمن هذه الرؤية يمكن فهم مخرجات قمة الدوحة، التي لم تقدم عمليا سوى النوايا، لأن أي إجراء يمكن أن يحدث مشكلات جانبية كثيرة في ظل الوقائع على الأرض، ولكن التأخر في اتخاذ الإجراءات سيكون مكلفا للغاية.

مقالات ذات صلة