
«حزب الله» بين الضغط والمكابرة: للشمشونية شروطها
وسام سعادة
حرير- يتواجه في لبنان اليوم «منطقان».
مختصر الأول أن «الضغط يولد الانفجار»، وأن هذا الكم المتواصل من الضغط الذي يهدّف بلا كلل على «بيئة حزب الله» كما شاعت تسميتها سينتهي إلى تفجير الوضع في الداخل بصرف النظر عن تمادي الانعدام في التوازن بين إسرائيل وبين ما بقي من «الحزب» الموالي لإيران. المنطق المقابل ينطلق من أن الحزب هُزم بشكل مضاعف نهاية العام الماضي. مرة حين ظهر أن «حرب الإسناد» لا هي أفلحت في تخفيف الضغط عن قطاع غزة ولا في تجنيب لبنان وبالأخص المناطق ذات الكثافة الشيعية حرباً تدميرية مكثفة. ومرة وقد تهافتت سردية الردع المقاوماتية وانتهت الحرب إلى وقف إطلاق نار ينص على تفكيك ترسانة الحزب جنوب الليطاني. ومرة حين جرى التوسع، تعسفا، في تأويل وقف إطلاق النار، بحيث جرت مواصلة حرب إسرائيلية من جانب واحد منذ أحد عشر شهرا، لم تواجه بطلقة واحدة مضادة من أي مجموعة لبنانية. وفقا لهذا المنطق المقابل، هزيمة بهذا الحجم، وبهذه الأبعاد المختلفة، هي أكثر عمقاً وجسامة وقتامة من أن يجري المكابرة عليها واعتماد المجاملات الوطنية المستهلكة بدلا من طرق بابها. يتواجه إذاً في لبنان منطق «الضغط يولد الانفجار» مع منطق «الهزيمة أكبر بكثير من أن يجري الإعراض عنها والانصراف الى الأعمال الجارية».
الشرخ كبير بين اللبنانيين. على خلفية الموقف من «حزب الله» وسلاحه وحروبه وهزيمته في العام الماضي. التناقض مستحكم بين المنطقين الآنفي الذكر. مع هذا لا يمكن اختزال أي منهما في وهم من الأوهام.
فالدور الذي شغلته تجربة «حزب الله» ليس من السهل استبداله بسردية أخصام هذا الحزب وأفكارهم ورموزهم غير المجربة بالشكل الكافي. ويسرف أنصار الحزب في استثمار كل ما من شأنه تصوير المسائل كما لو أن مناخاً أنتي شيعياً بشكل صميم ومحموم هو الذي يحرك كل تبرّم من الحزب وسياساته وحروبه، وأنها حرب إلغاء وجودية مطلقة. يستثمر الممانعون في مثل هذا. لا يعني ذلك في المقابل أن الطوائف عموماً لا تنتظر دخول واحدة منها في مأزق حتى ترفع من السقوف إزاء هذه «الطائفة المنافسة’، ولا يفيد ذلك أنه ليس ثمة بالفعل «مسألة شيعية» ولو تمترس وراءها حزب الله وحركة أمل، أي مسألة تتعلق بشكل أو بآخر بكيفية الإفلات من حدّية الخيار بين أن تكون متغلباً وبين أن تكون مغلوباً، في معترك المشاحنات والمناقلات بين الطوائف.
كذلك الهزيمة. المكابرة عليها لا تحسن من شروط مواجهتها. خاصة حين تجيء المكابرة معدومة الحماسة، مفتعلة، شاحبة، غير مكترثة لتوسيع مدارك الخطاب وتنويع أرضية المتناقضين مع الإملاءات الأمريكية بشكل ينم عن مراجعة للسردية والأسلوب على حد سواء. المكابرة على هذه الهزيمة مع استمرار الغارات الإسرائيلية توجد وضعاً يصعب تحمله الى ما لا نهاية. لأجل هذا من يتكل على منطق «الضغط يولد الانفجار» ليغفل استحالة التهوين على هزيمة كبرى كالتي حصلت واستمرت على خلفية وقف إطلاق نار من جانب واحد، إنما يخدع نفسه قبل سواه. الضغط يولد الانفجار؟ صحيح. هناك مسألة شيعية قابلة للاشتعال، ما بين الاستثمار الزائد للثنائي أمل وحزب الله في سردية استهداف الآخرين للطائفة وما بين عدم القيام بالجهد الكافي على الضفة الأخرى لمخاطبة وجدان أكثرية الشيعة والانتظار منهم بشكل غير واقعي أن ينتقلوا من سردية الى أخرى بين ليلة وضحاها.
ثم إن الضغط كما يولد الانفجار يمكنه أن يولد العصف الداخلي أيضا. أما المكابرة على الهزيمة فبمقدورها توليد مقدار أكبر من الهزيمة.
أما المقايسات الشائعة فالتروي فيها أولى. لا يمكن إسقاط مشهدية «استئصال الفاشيات» بعد الحرب العالمية الثانية على الواقع اللبناني. لا يمكن كذلك الأمر التذكير ليل نهار بمرحلة اجتياح 1982 وما بعده كما لو كان الزمن يدور طول الوقت وبلا تعب. المقايسات ليست مستهجنة بحد ذاتها، لكن الاستفادة منها مقرون الى حد كبير بالتمكن من استيعاب اثنتين في وقت واحد: إنه كلما أخذ الضغط طابعا استهدافيا للشيعة أو ينجح حزب الله في تصويره لدى جمهور من الطائفة على أنه كذلك كلما زادت نسبة الخطر على مسار الأوضاع الداخلية، المتصدعة أساسا. وإنه كلما جرى الاستمرار في المكابرة على الهزيمة فإن الأمور ستسلك هي الأخرى مسارات انحداريا من النوع الذي يظهر أن الحركات الإسلامية ليس بمقدورها تحاشيه بسهولة. المشكلة تكبر حين يتوهم من يتوهم أن الكباش الداخلي يمكن أن يلهيه عن تدبر انعدام التوازن لغير صالحه في الاقليم.
أما العودة إلى معزوفة «ميثاقية» أو لا ميثاقية القرارات الحكومية المتعلقة بتفكيك منظومة حزب الله السلاحية فهذه حيلة ما عادت تنفع، لا بلاغياً ولا أمنيا، إلا إذا كان المطلوب هو الذهاب الى وضع إسقاطي لاتفاق الطائف، بما يعنيه هنا بالمعنى الأوسع، من صيغة لتركيب دولة تكون مركزية وطائفية في آن بعد الحرب الأهلية، وفي ضوء نتائج هذه الحرب وتداعياتها، وفي كنف الوصاية السورية ثم مسعى حزب الله لوراثة هذه الوصاية. معزوفة أن سحب السلاح من حزب قلما سأل عن الميثاقية ينافي هذه الميثاقية هو إما محاولة عبثية لاستعادة فن من فنون السحر فقد بريقه وإما هو إمعان في الخيار الشمشوني. يبقى أنه، حتى الشمشونية الانتحارية بمنطق «عليّ وعلى أعدائي»، يلزمها طاقة وفكرة، ولها شروطها ولا يمكن المضي بها في كل لحظة.