المساعدات الأمريكية للمحاصرين في غزة… مصائد لقتل المدنيين

عبد الحميد صيام

حرير- ثلاث محاولات قامت بها الولايات المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية للمحاصرين في غزة، تحت وابل القنابل والقذائف الأمريكية المقدمة لجيش القتل والمجازر. إنها بلطجة القوي الذي لا يعير اهتماما لا لحق ولا لعدل ولا لقانون. ما يشرعه يصبح قانونا، وما يرفضه يتوقع من العالم أن يسير على هديه، فبالإضافة إلى المليارات التي قدمتها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، فتحت لها مستودعات الأسلحة والمعدات والذخائر، التي فاقت مئة ألف طن من المتفجرات، تكفي لصنع عشر قنابل ذرية من النوع الذي ألقي على هيروشيما وناغازاكي. ولكن الولايات المتحدة ما فتئت تدّعي أنها لا تريد قتل المدنيين في غزة، بل تقديم المساعدات الإنسانية لهم، وما زالت تثني على حرفية إسرائيل وحرصها على عدم استهداف المدنيين.

لقد أطلقت أمريكا حملة إعلامية كبيرة في محاولة لإقناع العالم أنها تعطف على المدنيين والأطفال خاصة، عبر عدد من المبادرات الغريبة والمميتة في الوقت نفسه، ما اضطرها إلى أن تتراجع عنها تحت وابل النقد الشديد من المنظمات الإنسانية. وسأمر على ثلاث محاولات انتهت كلها إلى فشل ذريع، بعد أن حصدت حصتها من أرواح الأبرياء في قطاع غزة.

المحاولة الأولى.. إسقاط المساعدات من الجو

في شهر مارس 2024 بدأت الولايات المتحدة عمليات إسقاط جوي لرزم من المساعدات الغذائىة على المحاصرين والجوعى في قطاع غزة، بعد خمسة أشهر من الحصار والقتل والتدمير والتهجير القسري والاعتقالات الجماعية. وقامت “القيادة المركزية” للجيش الأمريكي بتولي المسؤولية عن هذه العملية. بلغ عدد عمليات الإسقاط 40 طلعة جوية. راح الناس يراقبون الفضاء الذي يسقط عليهم القنابل الأمريكية لعله يلقي عليهم الآن مساعدات غذائية. قنابل لقتلهم وأغذية تؤجل موعد قتلهم إلى أن تصل القنابل بيوتهم وأطفالهم وخيامهم. لكن طريقة قذف الرزم من ارتفاعات عالية أثارت حفيظة المنظمات الإنسانية التي انتقدت هذه الممارسة العشوائية، التي أدت إلى خلق فوضى لا أحد يستطيع السيطرة عليها، وأعطت فرصة للأقوياء من الرجال لتلقف المساعدات تاركين خلفهم النساء والأطفال والشيوخ والجرحى وذوي الاحتياجات الخاصة. لقد كان الإلقاء عشوائيا، حيث لم يتم ترتيب أسلوب تلقي المساعدات في مكان ، ثم تحويله إلى منظمات الأمم المتحدة الإنسانية لتنظيم عملية التوزيع، وكأنّ الأمر مقصود. وقد هبطت الرزم على رؤوس الحشود المتدافعة لتلقي المساعدات فقتلت العشرات منهم، ما أثار رعبا لدى الناس وصرخات دولية لوقف هذا الأسلوب غير الحضاري، ما اضطر الإدارة الأمريكية لوقفه تحت وابل الانتقادات الشديدة. لقد أدى هذا الأسلوب إلى تحشيد أعضاء مجلس الأمن الدولي لصياغة مشروع قرار يطالب بالسماح لدخول المساعدات الإنسانية فورا، ودون أي إعاقة وإعلان وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى، وهو ما تجسد لاحقا في قرار 2735 يوم 10 يونيو، حيث صوتت مندوبة أمريكا بـ”امتناع”.

المحاولة الثانية.. الميناء العائم

في منتصف مارس 2024 أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن قراره بإنشاء ميناء عائم على شاطئ غزة لإيصال المساعدات الإنسانية للمحاصرين في القطاع. وقد كُـلّف الجيش الأمريكي وقوات البحرية بإنشاء الميناء، الذي استغرق إنشاؤه على ساحل غزة نحو شهرين وبتكاليف وصلت إلى 230 مليون دولار. أعلن عن جاهزيته يوم 16 مايو 2024. وقد رافقت إنشاء الميناء حملة إعلامية واسعة، وكأن هذا الميناء سيخرج أهالي غزة من ضائقتهم. وأعلنت القوات الأمريكية أن الميناء يواجه صعوبة أمام موجات البحر العاتية. وكي تعرف أنها كذبة كبيرة، انظر إلى هشاشتها. فبحر غزة لم يعرف في تاريخه الحديث عواصف بحرية عاتية، ولم نقرأ عنها ولا أجدادنا حدثونا عن هيجان شواطئ المتوسط الشرقية، لا في فلسطين ولا لبنان ولا سوريا. لكن المتوسط قرر في عهد بايدن أن يطلق موجات النوّ العاتية في مينائه العائم، الذي ولد ومات خلال عشرين يوما فقط. وقد تبين في ما بعد أن قوات سرية إسرائيلية كانت ترافق الشاحنات من الميناء إلى مراكز التوزيع. وقد ادعت أن هناك عناصر من المقاومة في أحد تلك المراكز، فقامت بتفجير المكان وإطلاق النار وارتكاب مجزرة مروعة أطلق عليها مجزرة النصيرات، التي استشهد فيها أكثر من 200 فلسطيني غالبيتهم نساء وأطفال. كما قدمت العناصر الأمريكية القائمة على الميناء والخلية الأمريكية التي تعمل مع القوات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023 معلومات استخباراتية حول بعض الرهائن، حيث تمكنت قوات الاحتلال الصهيوني من اختطاف أربعة من الأسرى مقابل تلك المجزرة. لقد اكتشفنا في ما بعد أن الميناء العائم كان جزءا من خطة إسرائيلية خبيثة للتسلل إلى مركز الإيواء، لجمع المعلومات عن عناصر المقاومة والأسرى. وبعد أن تمت العملية وافتكاك الأسرى الأربعة، وقتل المدنيين انتهت مهمة الميناء وتم تفكيكه، وكأن شيئا لم يكن ولم يعد أحد يأتي على ذكره.

المحاولة الثالثة.. مؤسسة غزة الإنسانية

أنشأت إسرائيل بالتعاون مع الأمريكيين في بداية شهر مايو 2025 ما سمي “مؤسسة غزة الإنسانية”، التي أنشأت أربعة مراكز لتوزيع طرود غذائية. وقد كلفت مؤسسات أمريكية لإدارة العملية، التي اتسمت بالفوضى حيث تدافع الجياع إلى مراكز التوزيع فقوبلوا بالرصاص الحي أولا وثانيا وثالثا، ما أثبت بالدليل القاطع أن التعاون الأمريكي الإسرائيلي لم يكن لإنقاذ المدنيين، بل لقتلهم. وكلفت مجموعة بوسطن الاستشارية لإدارة المؤسسة، لكن استقالة مسؤول المؤسسة جيك وود، الذي كان جنديا سابقا في مشاة البحرية، وعمل في العراق وهايتي، كان بداية لتفكك المؤسسة. كما تعرضت المؤسسة إلى انتقادات دولية حادة، خاصة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ومنسق الشؤون الإنسانية توم فليتشر، انسحبت مجموعة بوسطن ومستشاروها من العملية يوم الجمعة الماضي، بعد استقالة اثنين من كبار المسؤولين التنفيذيين فيها. لقد تحولت نقاط التوزيع إلى مصائد لقتل عشرات الفلسطينيين المجوعين، من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. كما تبين أن العملية كلها أمنية، وأن إسرائيل تسعى من خلال هذه المؤسسة أن تتعرف على كل شخص يأتي ليطلب المساعدات مستخدمة الذكاء الاصطناعي، كوسيلة لاختراق صفوف المقاومين. وقد جندت إسرائيل مجموعة من العملاء بقيادة ياسر أبو شباب، الذين كانوا يظهرون بأسلحتهم قرب مراكز التوزيع الأربعة لإعطاء مبرر لإسرائيل لإطلاق النار على الجماهير، بحجة أن عناصر مسلحة من حماس تريد أن تستولي على المستودعات وما فيها من مواد غذائية. وقد أصدرت عائلة أبو شباب بيانا تم تناقله على وسائل التواصل الاجتماعي يعلن براءة العائلة من ابنها ياسر أبو شباب وإهدار دمه بعد التأكد من تعاونه مع الاحتلال.

لقد رفضت الأمم المتحدة التعاون مع المؤسسة، قائلة في بيانات عديدة إنها تفتقد للحيادية والمهنية والموضوعية، وتشتت الانتباه عما هو مطلوب فعلا. لقد ارتكبت إسرائيل على الأقل ثلاث مجازر أثناء محاولات الوصول إلى مراكز التوزيع. وانتهت المؤسسة والقائمون عليها كما انتهى الميناء العائم والإسقاط الجوي للرزم الغذائية.

مقالات ذات صلة