الانتظار حكمة المتعقلين أم خيار العاجزين؟

جواد بولس

حرير- من الطبيعي أن يتصدر خبر إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية منصات الإعلام في جميع أنحاء العالم؛ وأن يطغى الحدث وتأويل تداعياته المرتقبة، على مشاهد قتل الفلسطينيين المستمر في قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى التطورات الدراماتيكية المتفاعلة على الساحة الإسرائيلية الداخلية، في أعقاب إقالة نتنياهو لوزير دفاعه غالانت.

كثر المحللون وتعددت تصوراتهم حول تأثير عودة ترامب القوية على القضايا العالمية الحارقة، وضمنها تأثيره على منطقتنا. يتشبث كل فريق من هؤلاء المحللين، العرب والإسلاميين تحديدا، بآرائه التقليدية المعروفة حيال واقع الأزمة الفلسطينية والفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم؛ فبعضهم لا يولون لهوية الرئيس الأمريكي أي اهتمام، وعندهم قناعة بأن أمريكا «هي الطاعون والطاعون أمريكا»؛ بينما تعتبر فئة أخرى منهم، أن مجيء ترامب سينزل ضربة قاضية على احتمالات حدوث أي انفراج كان ممكنا، ولو بقدر نسبي، لصالح الحق الفلسطيني؛ وأنه سيستأنف مشروعه في تأسيس «الحلف الإبراهيمي»، أو ما يشبهه، من أجل ترسيم خريطة الشرق الجديد، حيث ستُستوعب فيها إسرائيل الكبرى من باب كونها «شقيقة» شرعية لذاك النسل الإبراهيمي، بخلاف كونها، في الموروث السياسي المهيمن، كيانا استعماريا أو دولة يهودية لا مكان طبيعيا لها في هوية محيطيها العربي والإسلامي التقليديين.

سأدع هذه القضية جانبا، موقنا بأن ما سيأتينا من «خراج» المرحلة الترامبية المقبلة ليس إلا خرابا أكبر من الموجود حاليا، وأضغاث مصائب ستضاف على «إبالاتنا» المهلكة. ويكفينا أن نرى كيف طارت قلوب أقطاب اليمينيين الإسرائيليين، من غلاة المتزمتين المتدينين وفاشيين قوميين، فرحا واطمئنانا بأن فوز ترامب سيمكنهم من إنجاز مشروعهم، وإقامة مملكة إسرائيل الكبرى، وترسيخ نظام حكم ديكتاتوري سيعمل وفق شرائع الاستبداد الظالمة والمظلمة.

قالوا: لكل زمان دولة ورجال؛ فلننتظر إذن لنرى كيف ستعامل الإدارة الأمريكية الجديدة منطقتنا؛ ونرى بالمقابل كيف ستتعامل الأنظمة العربية والإسلامية مع هذه الإدارة، خاصة حيال ما يسمى «مرحلة ما بعد الحرب»، وحسم مصير الأراضي الفلسطينية، غزة أولا ومعها الضفة الغربية المحتلة، وفي المسعى ذاته تفكيك العقدة اللبنانية، واحتواء ما بقي من هياكل لدول عربية تقطعت أوصالها وتشظت مجتمعاتها إلى ملل ونحل، تئن من جور سلاطينها، ولقبائل تضرب كل واحدة منها بسيف «قيصرها» أو تنام في حضن «فوارسها».

ولئن كان الانتظار حكمة المتعقلين أو خيار العاجزين، لكنه، في حالة المواطنين العرب داخل إسرائيل، غير مجد وغير منطقي؛ فالصورة بالنسبة لما تخططه حكومة إسرائيل لمستقبلنا واضحة، والرهان على مرحلة ما بعد الحرب لا طائل من ورائه ولا مسوغ له، وسوف يكلفنا أثمانا وخيمة. فتاريخ التعويل في السياسة على ظهر الغيب خائب وهزيل، وجرح السذاجة في جلدنا عميق، والجهل كان وما زال سيدا في مضاربنا وأب كل نواح وعويل.

قالوا لننتظر؛ فقلت هذا أوان الجد والعمل ولنتذكر: أن حكومات معظم الدول، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، تعتبر أن شؤون المواطنين العرب في إسرائيل كانت وستبقى قضية إسرائيلية داخلية؛ ولا يجوز لأي جهة أجنبية أن تتدخل في تفاصيلها أو هندستها، سوى، وهذا في أحسن الأحوال، إبداء «اهتمامها» أو «قلقها» في بعض التجاوزات الإسرائيلية الحادة التي تندرج تحت عنوان «حماية حقوق الإنسان» وحسب؛ من دون أن يفضي ذلك القلق إلى أي محاسبة أو تفعيل ضغوطات مؤثرة على إسرائيل. وأن جميع السيناريوهات والمنصات الدولية والإقليمية التي تناولت «القضية الفلسطينية» منذ عام 1948، استثنت الحديث عن وضع الأقلية الفلسطينية داخل إسرائيل، وممارسات المؤسسة الإسرائيلية العنصرية تجاهها، فاضطرت القيادات العربية المحلية خوض كفاحاتها ضد سياسات التمييز والاضطهاد العنصري لوحدها، بمعزل عن أي إسنادات دولية منظمة تذكر. وأنه بعد أن عانى أجدادنا وآباؤنا من تسخيف الأمة العربية وأنظمة الحكم فيها لمأثرة بقائهم في وطنهم و»تخوينهم»، من قِبَل من ضاعوا أو خانوا، نعاني اليوم من جهل هذه الأمة المزمن ورواج مواقف الصدود عنا ومقاطعتنا في بعض محافلها، بحجة أننا نحمل جواز السفر الإسرائيلي. وأن حكومة إسرائيل الحالية ماضية بتنفيذ مخططاتها تجاه المواطنين العرب، ولا تنتظر نهاية حربها على غزة ولبنان، بل تستغل أجواء هذه الحرب وتسخرها في صالح مشروعها الذي تشارك فيه جميع منظومات الحكم وفق نهج متكامل ومعلن؛ وتتمنى الحكومة أن يؤدي نهجها إلى صدام مع مواطنيها العرب قريبا، وأن يكون دمويا؛ فكتائبها المسلحة، المهووسة بعدائها العرقي للعرب، شُكلت في الأساس لمواجهة المتمردين على سياستها والمتحدين لإرادتها، ولتلقين «العصاة» درسا ستفوق «عبره» عِبر مواجهات اكتوبر عام 2000 عندما حصدت نيران شرطة إسرائيل أرواح ثلاثة عشر مواطنا من دون أن يحاسب أحد عن دمائهم.

استغلت الحكومة وجود أكثرية مطلقة معها في الكنيست، فشرعت بسن سلة من القوانين الأبرتهادية المجحفة بحق المواطنين العرب، لن أتطرق لجميع تلك القوانين وهي كثيرة؛ لكنني سأتوقف عند آخرها، وكان قانونا أقرته الكنيست قبل أيام ومنحت بمقتضاه الصلاحية لوزير التربية والتعليم الاسرائيلي بإقالة موظف من جهاز التربية والتعليم، بقرار إداري، إذا «ثبت» أن الموظف يتماهى أو يدعم «الإرهاب»، وخوله الصلاحية أيضا بحجب ميزانية مؤسسة تعليمية إذا «ثبت» أن طاقمها يتماهى أو يدعم «الإرهاب». لقد أقرت الكنيست قبل هذا القانون بأيام فقط في القراءة التمهيدية قانونا يتيح شطب ترشيح شخص، أو حزب، أو شطب كل مرشحي حزب، إذا «وجدت» أكثرية لجنة الانتخابات المركزية، أنه قد أبدى دعمه، أو تأييده لمنفذ «عملية إرهابية»، وفق التعريف الإسرائيلي للإرهاب طبعا، أو أبدى دعمه للكفاح المسلح، حتى لو لم يخرج هذا الدعم حيْز التنفيذ، أو لم يؤثر على أحد.

سيسهم القانونان في تشديد سياسة الترهيب وكم الأفواه والقضاء على ما كان باقيا من هوامش ديمقراطية ضيقة وعرجاء؛ وسيستغل قانون الترشيح لمنع الأحزاب العربية المؤمنة بضرورة النضال البرلماني وغير المتساوقة مع سياسات الحكومة وقواميسها السياسية، من خوض الانتخابات للكنيست ولحرمان المواطنين من ممارسة حقهم في المشاركة السياسية. القانونان المذكوران يشكلان عينة من منظومة تشريعات واسعة ونافذة وضعت كي تضبط «أخلاق» وتحركات وتفوهات جميع العاملين في جميع قطاعات العمل والمنتمين لجميع شرائح المجتمع العربي؛ وهي تشكل الاطار «القانوني» لتسويغ مخططات مؤسسات الدولة، وأحزمة واقية لمن «سيهتمون» ميدانيا بمواجهة كل من ستدفعه عزيمته أو هويته ليحتج أو يعارض أو يقاوم تلك المخططات. ليس على هذه القوانين وحدها ستحيا إسرائيل الجديدة، فأمامنا وعلى رقابنا تتأسس مملكة، يقف على رأسها ملك محاط بجهال مناكيد وبحفنة «سادة مهووسين» وبحرس، ومحاكم تفتيش يلاحق كهانها الهواء وأصحابه وينامون وريقهم على «هرم» وعلى «حرم». مملكة لديها حاضنة تدعى أمريكا «وأشقاء» مسلمون وعرب وعجم وكل مجامع اللمم.

حزنت عندما قرأت أن بعض المتضررين من تلك التشريعات يتأهبون للتوجه إلى محكمة العدل العليا كمتظلمين بعدم «معقولية» تلك التشريعات؛ فهذا هو الانتحار بعينه، أو ما سمته جداتنا، تحببا بغواليهم، «قصر ديل يا أزعر». لقد أصبحت هذه المحكمة مقبرة للعدل ومقصلة لأصحابه ويجب ألا تقربوها، حتى إذا قصرت الحيلة وعجزت العزيمة. خوفي أن ندمن الانتظار وتبقى «مقبرة العدل» ملجأ المضطهدين الوحيد! فما العمل؟ لن يسعفنا عدل الجلَادين ولا رحمة «العشماويين» ولن تعدل معنا أمريكا ترامب كما لم يسعفنا أوباما، أبو الحسن. لم يحمنا حمَلة صليب الفرنجة كما لم يُجزنا «هلال» تفرقت راياته بين «قيس ويمن» وتكسرت في حلقهِ الخناجر وبكى جانبها الندم.

ما العمل؟

يجب ألا ننتظر؛ فبعد الحرب سيتكشف لنا وجه قبيح لإسرائيل لم نره من قبل.

مقالات ذات صلة