حلل يا دويري

سليمان المعمري

عنوان هذا المقال هو النداء الذي وجهه فدائيٌّ فل.سطيني في تسجيلٍ مصوّر هذا الأسبوع محتفِلًا بنجاح إحدى عمليات كتا.ئب القسا.م ضد الجيش. الإسر.ائيلي في قطاع غzة. وهو النداء الذي لقيَ صدى واسعًا، وصار وسْمًا في منصة التواصل الاجتماعي إكس تضمن آلاف التغريدات، المتوزعة بين الإشادة باللواء الأردني المتقاعد فايز الدويري، المقصود بالنداء، والذي هو أحد نجوم هذه الحر.ب الإ.سرا.ئيلية على غzة الدائرة منذ السابع من أكتو.بر الماضي، وبين الإعجاب بظرف وخفة دم وهدوء أعصاب مقا.تلي كتا.ئب القسا.م في ظروف مواجهاتهم الصعبة مع الإ.سرا.ئيليين.
والحق أن الدويري صار خلال هذه الحر.ب فردًا من أفراد العائلة العربية خلال متابعتها للتغطية اليومية المستمرة من قبل قناة الجزيرة لاعتداءات إسرا.ئيل على أهلنا في غzة وبطولات المقاوِ.مين الفلس.طينيين. ورغم أن عملية “طو.فان الأ.قصى” وما تلاها من تداعيات لم تكن الظهورَ الأولَ له محلِّلًا عسكريًّا في القناة، إلا أنها مثلتْ ذروة البروز الإعلامي للدويري، وأكسبتْه شعبية كبيرة مستحقة مستمدة من شعبية قناة الجزيرة في العالمَيْن العربي والإسلاميّ من جهة، وتفرّدها – أي القناة، مع قنوات أخرى قليلة – بما يُمكن أن أسميه “الانحياز الموضوعي والأخلاقي” للحقّ الفل.سطيني من جهة أخرى. لكن الأهم من هذا كله أن فايز الدويري كان المحلل الذي وفّر للقناة الظروف المواتية لهذا “الانحياز العادل”، بجمعه بين مهارات المحلل الع.سكر.ي من جانب، ومواهب المنظِّر الاستراتيجي من جانب آخر، إضافة إلى بلاغته في الحديث، وصوته الجهوري، وحضوره القوي أو ما يسمى بــ”الكاريزما” الشخصية.

وإذا كان كل عسكريّ ينتهي ترقّيه الوظيفي – رتبة إثر رتبة – بعد تقاعده، فإنه يمكن القول إن اللواء الدويري – البالغ من العمر اليوم واحدًا وسبعين عامًا- نال بعد تقاعده بسنين ترقية معنوية أكبر من كل الرتب التي حصل عليها وهو على رأس وظيفته. وهل هناك ترقية أكبر من أن يُصبح المحلّل العسكري لبطولات المقا.وِمين، والشارح لأهميتها، والمفسّر لما يستغلق على الأفهام من تفاصيلها. وكأن كل خلفيته العسكر.ية السابقة لم تكن إلا إعدادًا أو تجهيزًا لهذا الدور المهمّ المنتَظَر.
وعندما نتحدث عن الخلفية العسكر.ية للدويري فإننا نعلم أنه كان آمرًا لكلية القيادة والأركان الأردنية، وقبلها كان مديرًا لسلاح الهندسة الملكي الأردني، ونعرف من سيرته العمليّة أيضًا أنه شارك في نزع الألغام على الحدود الأردنية السورية، وساهم مع القوات اليمنية في تحصين مضيق باب المندب وبناء معسكر في تعز. وإذا كانت هذه الإنجازات العسكر.ية قد أكسبته خبرة في التحليل، فقد تميّز الدويري أيضًا بمَلَكات أخرى عضّدت هذه الخبرة، منها القدرة الفائقة على تحليل المعلومات العسكر.ية ومقارنتها بالوضع السياسي القائم، والإلمام الجيد بالجغرافيا الفلسطينية، والفهم الواضح للتكنولوجيا والأنظمة العسكرية المتقدمة، والتمكن من جمع المعلومات من مصادر متنوعة والمقارنة بينها بشكل جاذب، كل ذلك دون أن يخرج على القواعد الأخلاقية والمعايير المهنية في تحليلاته.
لا أحد يشكّ للحظة وهو يتابع الدويري يحلّل هذه العملية أو تلك من عمليات “كتا.ئب القسا.م” أو “سر.ايا القد.س” أو حتى عمليات الجيش الإسر.ائيلي واعتداءاته اليومية، أن هذا المحلّل رضع الق.ضيةَ الفلس.طينية من ثدي أمه التي فقدها وهو ابن أحد عشر عاما فقط. يقول في أحد حواراته التلفزيونية: “أنا ابنُ القضية، أردني من أب أردني من أم أردنية، أجدادي حتى ما بعد الخامس أردنيون، لكنّ ف.لسطين قضيتي”. لذا، فإنه لا يُخفي تعاطفه مع أبناء قضيته أثناء التحليل، ولا يخشى أن يُقال عنه “غير موضوعي” بما أنه يتعاطف مع أصحاب الحق، لأنه – وهذا هو المهم – يدعّم تحليلاته بالمعلومات والأرقام ومخاطبة العقول قبل القلوب. وعلى أية حال، فقد رأينا بأم أعيننا خلال هذه الحر.ب كيف سقطت إلى الحضيض موضوعية ومصداقية كثير من القنوات العالمية التي كنّا نحسن الظن فيما يُسمى “موضوعيتها”، وكيف صار سؤال: “هل تدين حما.س؟” الذي يُطرح على أي ضيف فل.سطيني مثار سخرية وتندّر الغرب قبل العرب.
وإذن؛ فقط خاطب فايز الدويري العقل والوجدان في الوقت ذاته، فصار أقرب إلى ذلك المقا.تل الفل.سطيني البطل الذي وصفه في تحليله بأنه “يتحرك من بين الأموات ليعيد بسمة الحياة إلى شفاه أهل غzة”. يقول الدويري في وصف بطولة ذلك الفدائيّ: “هذا المقا.تل يعلّم الناس معنى الرجولة والدفاع عن الأرض والعرض، عندما يصل إلى دبابة تعتبر الأحدث أو من بين الأحدث في العالم، ويتحرك من المقدمة إلى مؤخرة الدبابة، لأن نقطة الضعف في هذه المنطقة، ويضع حشوة شواظ، هذا [المقا.تل] كانت نسبة استشها.ده [في هذه العملية] 99% ولكنه في سبيل أداء المهمة والدفاع عن الشرف والكرامة والأرض والعرض فعل ما فعل، واستطاع أن ينجح”. ليس غريبًا والحال هذه أن يشاهد هذا المقاتلُ ورفقاؤه من مخابئهم السرية تحليلَ هذا اللواء المتقاعد فينتشوا ويَسعدوا به، ويطالبوه بالمزيد هاتِفين به بالاسم أن “حلِّلْ يا دويري”.

جريدة عُمان. عدد الأحد 31 ديسمبر 20233:

مقالات ذات صلة