الغرب ينجح في إظهار وجهٍ بربري

محمود الريماوي

حرير- نعيش مجدّداً في المنطقة العربية على مفترق طرق، بعد أن وضعتنا دول نافذة في الغرب عليه، بدعمها الُمشين تهديم غزّة وإبادة أهلها، فقد كان الظن لنحو شهرين فقط أن الكتلة النافذة في الغرب (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، وبدرجة أقل فرنسا) هي في مواضع تتراوح بين الصديق والمنافس والخصم، حسب تقلبات الظروف والتحدّيات، ومع تباين بين دولةٍ وأخرى.

في هذا المنعرج، فاجأتنا تلك الكتلة أنها شديدة الالتصاق بدولة الاحتلال الإسرائيلي، رغم مزاعمها باختلافها مع حكومة بنيامين نتنياهو منذ تشكّلت أواخر العام الماضي، وأن تلك الكتلة الغربية تخوض حربها ضد غزّة وأهلها، وهو ما يتنافى مع ذخيرة القيم السياسية لتلك الدول التي لطالما أعلنت التفافها حول الأمم المتحدة وميثاقها وقراراتها، وحول القانون الدولي والإنساني، وتمسّكها بحقوق الإنسان، وإيلاء أقصى العناية لكل من فئة الأطفال والنساء، فاذا بها تطرح هذه التوجّهات جانباً وتدوس عليها. وفوق ذلك، كانت أوروبا الغربية على الأخص تتجنّب الخوض في الحروب، وتسعى إلى إطفاء بؤر التوتر حيثما وجدت، مشدّدة على أن إرث الحربين العالميتين زاخر بالكوارث وبالدروس التي تدفع نحو حلولٍ سلميةٍ للأزمات. حتى ان هذه الدول نأت بنفسها عن الحرب الروسية على أوكرانيا، واكتفت بتقديم الدعم السّخي لها مع ميولٍ تخفت وتشتدّ لدفع أوكرانيا، البلد الأوروبي، إلى إبداء المرونة في التفاوض مع روسيا، فإذا بهذه الدول تقف مع حرب نتنياهو على غزّة وتشجع عليها، وتتجنّب الدعوة إلى وقف إطلاق النار، رغم أن هذه الحرب مصمّمة لاستهداف المدنيين والمرافق المدنية، بما يجعلها أسوأ من حرب بوتين على أوكرانيا وأدْعى للمطالبة بوقفها.

وقد تلاعبت هذه الدول بالعقول، بالتكرار الببغائي لمقولة الدفاع عن النفس، وهي مقولة فاسدة في حالة الدولة الإسرائيلية المحتلة والمحتفظة بوضع هجومي منذ 1967 ضد شعبٍ أعزل، ثم جرى تضخيم عملية طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر بتصويرها حرباً شاملة، مع أنها لا تعدو أن تكون غارة عسكرية على موقع مجاور.

ورغم أن دول الغرب النافذة لطالما صوّرت إسرائيل أنها دولة صناعية مزدهرة، إلا أنه تم التسابق على دعمها بما تحتاجه وتطلبه، وكأنها دولة فقيرة من العالم الثالث. والأسوأ دعم الحرب على الأطفال والنساء والبيوت والمستشفيات والمدارس والمخابز ودور العبادة، عبر استخدام دبلوماسية ملتوية، إذ جرى، بتناغم تام بين المسؤولين الغربيين، إطلاق عبارات من قبيل: يجب حماية المدنيين، ضرورة توفير ممرّات إنسانية، أهمية تقديم المساعدات. ولكن من غير إدانة للاعتداءات المتوحّشة، أو تحميل المعتدين المسؤولية عما ارتكبوه (تميزت نائبة رئيس الحكومة البلجيكية بيترا دي سوتر بالدعوة إلى فرض عقوبات على إسرائيل)، ومن غير المطالبة بوقف إطلاق النار(راجع على سبيل المثال تصريحات كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون ديرلاين وجوزيب بوريل). وبهذا وفّرت هذه الدول النافذة الغطاء لواحدةٍ من أقذر حروب التوحّش التي استهدفت منهجيا الحياة والعُمران في غزّة.

تركت هذه المواقف، عديمة النزاهة والداعمة لإرهاب الدولة، صدمةً هائلةً لدى الرأي العام العربي والإسلامي. وبدا الأمر وما زال غير قابل للتصديق، فأوروبا، بمواقفها هذه، تطعن في رسالتها الكونية وفي خطابها إلى الأمم، وتطعن تراثها القريب. ولئن كان من المفهوم أنه سبق لها أن فعلت ذلك (في غرب أفريقيا على يد فرنسا على مدى العقود الأخيرة على سبيل المثال)، إلا أن دول المجموعة حافظت على خطاب سياسي وقيمي متّسق، وزهت بمواقفها في البلقان ضد التوسّع الصربي والمذابح التي ارتكبها، بل إنها وقفت ضد دول نازعة إلى الاستبداد في القارّة مثل هنغاريا، غير أن الوضع حاليا اختلف، إذ تبين أن الأحزاب النافذة في ألمانيا وبريطانيا وأميركا، وبدرجة أقل فرنسا، لا تقل انغلاقا وتعصّباً عن أحزاب اليمين الشعبوي وتياراته في تلك البلدان، حين يتعلق الأمر بالنظرة إلى المسلم والعربي والفلسطيني، وأنه لم تعد هناك من فجوة بين الطرفين.

وحتى الولايات المتحدة، لم تكن في ظروف سابقة على هذا القدر من البلادة تجاه الضحايا المدنيين، ولا كانت على هذه الدرجة من الحماسة لحربٍ متوحّشة عمياء، بل كانت تميل في الحروب السابقة على غزّة للمسارعة إلى تشجيع إبرام هدنات، ولكأن الغرب بدوله النافذة يريد هذه المرّة تصفية حسابات مع ما تمثله مقاومة غزّة من عوامل الخصوصية والمنعة، فأرادت لهذه البذور الصلبة أن تنسحق وتتبدّد. وحين تسوّغ واشنطن، ومعها برلين ولندن، الامتناع عن طلب وقف إطلاق النار، بالخشية من أن تستفيد منه حركة حماس، فإن هذه العواصم تتلاعب بالعقول، إذ يستفيد طرفا المواجهة حقا من التهدئة، لا طرف واحد، ولم يكن سهوا تجاهل أن المستفيد الأكبر من الهدنة هم المدنيون.. غير أن هؤلاء لا يخطُرون أبداً ببال الجد الوديع جو بايدن.

لقد تم الوصول إلى هدنة قصيرة بموافقة واشنطن، لسبب وحيد يتعلق بسلامة رهائنها. وإذا كان من واجب كل الدول إبداء أقصى الاهتمام بسلامة مواطنيها، إلا أن النظر إلى وضع الرهائن مُنتزعا من الوضع العام الذي يتجرّع المدنيون ويلاته، يدلّ على انعدام الإحساس تجاه الغير، تجاه أكثر من مليوني إنسان. ويقيننا أن الغرب، بمراكزه الرئيسية، ومن خلال حكوماته وأحزابه الكبيرة التقليدية وشركاته ومؤسساته الكبرى، قد نجح في إبداء الحنين إلى “الأمجاد” الاستعمارية الغابرة، وفي إظهار وجهه البربري الذي جاهد في إخفائه منذ منتصف القرن الماضي.

وقبل أن ينقشع غبار الحرب، أيا كانت نتيجتها، فإن ثمّة ما يشير إلى أن قطيعة فكرية وسياسية في سبيلها إلى التشكّل مع دول نافذة في الغرب، ومع مؤسّساتها الاقتصادية والفكرية والإعلامية والحزبية، ومع التمييز بين ما تقدّم وكتل اجتماعية عريضة، ثقافية ومهنية في الغرب، تقف مع العدالة، وقوامها يتشكّل على الخصوص من الأجيال الشابّة، وسوف تتوطّد الصداقة معها. ولا تعني القطيعة قطع العلاقات الدبلوماسية أو التجارية، بل تشير إلى اضمحلال الثقة بعهود الغرب، والتحرّز الشديد من طعنات أخرى، مع رفض الالتفات إلى خطاب تقليدي معسول، لا يعدو أن يكون نفاقاً عن حقوق الإنسان، وبالذات حقوق المرأة والطفولة، وتراجع التعاون في هذه المسألة وما يشاكلها. وهو ما يشي بأن مرحلة امتدّت ثلاثة عقود في سبيلها إلى الانقضاء، وقد تميّزت تلك المرحلة بتقارب نخبٍ عربيةٍ بما فيها ذات اتجاهات يسارية وقومية وإسلامية مع الغرب، استناداً إلى طموحات تدعيم السعي نحو الديمقراطية وسيادة القانون والتعدّدية في المجتمعات والدول، بعد ما بدا أن الغرب قد حقّق إنجازات كبيرة وراسخة على هذا الصعيد، إذ لن تجد بعد اليوم بضاعة الغرب هذه من يشتريها في منطقتنا، فيما ستتوجه الأنظار فيه بعيداً عن القطب الغربي.

مقالات ذات صلة