هل هناك أزمة ثقة بالجيش الإسرائيلي؟

أحمد الجندي

حرير- من المعتاد أن ينشر الجيش الإسرائيلي، مع بداية كلّ عام، إحصائيات الخسائر التي تعرّض لها خلال العام الذي مضى، ومن بينها وأهمها بالطبع الخسائر البشرية. وقد أعلن الموقع الرسمي للجيش الإسرائيلي عن حصيلة مرتفعة من الخسائر البشرية تمثلت في 44 قتيلاً خلال العام الماضي (2022)، مقارنة بـ31 في عام 2021، إضافة إلى تعرّض 158 جندياً لإصابات خطيرة خلال العام الماضي.

أمران لافتان للانتباه في التقرير؛ أولهما أنّ من بين هؤلاء القتلى 14 انتحاراً، وهو أمر يثير قلق القيادة العسكرية هناك، ما دفعها إلى تنفيذ برامج وقائية لمنع الانتحار بين الجنود منذ عام 2015 تقريباً. ويتعلق الأمر الآخر بالصورة الذهنية التي يحاول الجيش الإسرائيل تعميمها عند غير الإسرائيليين بدرجة أساسية؛ فالموقع منشور بخمس لغات (العبرية، العربية، الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية)، لكنّه مع ذلك يتجنّب نشر خسائره البشرية وإعطاء بيانات عن وقائع الانتحار بين الجنود بغير اللغة العبرية. كذلك، تحاول الدولة هناك قدر الإمكان الموازنة بين الشفافية المطلوبة التي تفرضها قيم الديمقراطية ونشر أي أخبارٍ من شأنها التأثير في ثقة مواطنيها في مؤسّساتها العسكرية، أو إظهار جوانب ضعفها في مواجهة أعدائها الخارجيين؛ كأخبار الفساد أو الفشل الإداري أو العملياتي داخل هذه المؤسسات. وعادة ما تكون الدولة أكثر ميلاً إلى إخفاء مثل هذه القضايا، قدر ما تستطيع، لكنها مع ذلك لا تتمكّن في كل الحالات السيطرة على وسائل الإعلام، فتتسرّب أخبار الفساد أو الفشل التي يمكن أن تكشف حالة الضعف.

في حديث تلفزيوني له، كشف اللواء المتقاعد إسحاق بريك عن جانب من الفشل الإداري في الجيش الإسرائيلي، بقوله إنّ مبالغ فلكية قد تصل إلى مليارات الشواقل تُهدَر نتيجة الإدارة السيئة، وفساد الضباط، والعطاءات التي يجرى إرساؤها بشكل مقصود لشخصياتٍ محدّدة بما قد يتضمّن تزويراً في البيانات. ويذكر بريك أنّ رؤساء الأركان عند تعيينهم، والذي يحدُث غالباً كلّ ثلاث أو أربع سنوات، عادة ما يفكّرون في ترك بصمةٍ في أثناء خدمتهم، وهذا يدفعهم إلى إلغاء كلّ الخطط التي كان رئيس الأركان المنتهية ولايته قد وضعها، والتي كلّفت الدولة مئات الملايين من الشواقل لمجرّد أنّ رئيس الأركان المعيّن يريد أن يبدو كمن اخترع العجلة من جديد، وهذا يؤدّي إلى إهدار كبير لأموال الجيش.

وينبّه اللواء بريك، في مقال آخر له، إلى أمر خطير آخر في الجيش الإسرائيلي، يتعلق بفقدان الثقة بين الجنود وقادتهم؛ ويبرهن على ذلك بكثرة الشكاوى التي يقدّمها الجنود ضد هؤلاء القادة، ويعتبر أنّ اهتمام الجيش بقضايا دمج النساء في الجيش، أو تجنيد الحريديم، أو حجم رواتب العسكريين الدائمين في الجيش يعكس خللاً في الأولويات؛ لأنّها قضايا أقلّ أهميةً من قضية فقدان الثقة؛ والتي من شأنها أن تضرب في أساس وجود الجيش الإسرائيلي، إذ إنّها تعكس مدى تدهور الروح القتالية للجنود.

ولا يقتصر الأمر على مسألة فقدان الأولويات، أو إخفاء بعض مشكلات هذه الأجهزة فحسب، بل يمتد إلى وجود فسادٍ واسع، لا تكشف الصحافة منه إلّا القدر اليسير. ويطاول بعض هذا الفساد جهاز الموساد. وكانت صحيفة كالكاليست الإسرائيلية قد كشفت في مايو/ أيار الماضي عن تفاصيل مهمة تتعلق بقضايا فساد تعود إلى أواخر عام 2020، منها أن شركة قدّمت رِشا من أجل بيع منتجاتها لأحد الأجهزة الأمنية الكبيرة في إسرائيل، وقد دين في القضية رجال أعمال وموظفّون في جهاز أمني كبير، وتراوحت التهم بين تقديم رشوة أو قبولها، وغسيل أموال، وخيانة أمانة، وسرقة مال عام، وإتلاف أدلة، وعرقلة العدالة، وقدّر حجم المبالغ (أرباح الشركة والرِشا التي قدّمتها) بعشرات الملايين من الشواقل. وعلى الرغم من أنّ المحكمة، التي أصدرت أحكاماً بالسجن والغرامات على المتورّطين، قد منعت نشر أي معلوماتٍ تشير إلى أسماء المتهمين، أو اسم الجهاز الأمني الكبير، فإنّ المعلقين لاحقاً رجّحوا أنهم موظفون كبار في جهاز الموساد.

يشار هنا أيضاً إلى شعور ضباط كبار بحجم المشكلات الكبيرة في الجيش الإسرائيلي. وفي هذا الإطار، قدّم الضابط ألون مدنس، وهو عقيد في الجيش الإسرائيلي، وسبق أن شغل مناصب قيادية كبيرة، تقريراً صادماً إلى رئيس الأركان، أفيف كوخافي، في يناير/ كانون الثاني 2021، بعنوان “أحمر العار”. وعلى الرغم من السرّية الكبيرة للتقرير، فإنّ الصحافة الإسرائيلية كشفت عن أنه أشار إلى فساد كبير في الجيش الإسرائيلي، ومشكلات متعدّدة كتخوّف القادة من التعبير عن مواقف مستقلة لهم، والفشل العملياتي… وغيرها. ومن المؤكّد أنّ حجم المشكلات التي رصدها مدنس كان كبيراً للغاية إلى درجة أنّه احتاج إلى ثلاثة مجلدات لكتابة التقرير.

ومن الواضح أنّ الجيش الإسرائيلي يعاني أزمة ثقة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث كشف استطلاع رأي نشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 عن تراجع الثقة بالجيش الإسرائيلي في أوساط يهود إسرائيل؛ إذ قيّم 78% من إجمالي المشاركين في الاستطلاع مستوى ثقتهم بالجيش بمرتفع ومرتفع جدّاً، بعد أن كانت نسبة من يقيّمون ثقتهم بالجيش بمرتفع ومرتفع جدّاً لا تقل أبداً عن 90% من إجمالي المصوّتين.

وقد رصد العقيد المتقاعد غابي سيبوني عدة أسباب أدّت إلى هذا التراجع الخطير في الثقة؛ أولها التدهور المستمر للروح القتالية للجيش، نتيجة توسيع مفهوم “الجندي المحارب”، وإطلاقه على القائمين بالمهام التكنولوجية واعتبارهم يؤدّون خدمة أكثر أهمية. ويعود تراجع الروح القتالية كذلك إلى أنّ قطاعات واسعة في الجيش أصبحت تتصرّف بوصفها مجتمعاً مدنياً، مع إهمالها للقيم العسكرية الأساسية. أما السبب الثاني فربطه سيبوني بالمميزات المالية التي يحصل عليها ضباط الجيش، في وقتٍ يعاني فيه أفراد المجتمع، خصوصاً خلال أزمة كورونا. هذا إضافة إلى ما يحصل عليه الضباط الكبار من بدلات مالية كبيرة. ويتعلق السبب الثالث بالتمييز الاجتماعي الطبقي داخل الجيش نفسه، إذ أصبح الجيش الإسرائيلي منقسماً إلى أصحاب “الياقات الزرقاء” الذين يتحمّلون الأعباء الشاقّة، ويعملون في الوحدات المقاتلة، وأصحاب “الياقات البيضاء” الذين يعملون في الوحدات التكنولوجية والاستخبارية. أما السبب الأخير والأهم، طبقاً لرأي سيبوني، فهو أنّ الثقة بالجيش، شأن أي مؤسسة أخرى، ينبغي أن تقاس بالنتائج فقط، وقد حاول الجيش إقناع الجمهور الإسرائيلي بأن نتائج عملياته في معركته أخيراً ضد غزة (حامي الأسوار) كانت ممتازة، لكن الحقيقة التي يدركها هذا الجمهور أنّ النتائج كانت متواضعة، رغم ما تقوم به الدولة من توفير كلّ الاحتياجات البشرية والمادّية للجيش. ويعني هذا السبب الذي ساقه العقيد، ضمناً، أنّ تنامي إمكانات المقاومة الفلسطينية كان سبباً مهماً في تراجع الثقة بالجيش، فبفضل صمود المقاومة لم تتمكّن إسرائيل من تحقيق ما كانت تريده من العملية العسكرية، وبالتالي لم تستطع تسويق نتائج “حامي الأسوار” إنجازاً عسكرياً كبيراً، وهذا يعني أنّ من شأن زيادة قدرات المقاومة مستقبلاً أن تسهم في مزيد من زعزعة الثقة بهذا الجيش.

ثمّة أمر آخر يُضاف إلى مشكلات المؤسسة العسكرية، وهو ارتفاع معدّلات الاعتداءات الجنسية داخل الجيش، وزيادة الشكاوى بشأن وقوع تحرّشات جنسية ضد المجنّدات؛ وقد شهد عام 2020 وقوع 26 اغتصاباً، و1542 شكوى بالتحرّش؛ وثمّة تقارير تفيد بأنّ واحدة من كلّ خمس مجندات تتعرض للتحرش الجنسي في أثناء خدمتها العسكرية. ومع احتمالية أنّ اعتداءات جنسية كثيرة لا يبلَغ عنها في المعتاد، فإنّ ذلك ربما يشير إلى حالات أكبر بكثير من تلك المعلنة.

وحجم الأخبار المسرّبة عن قضايا الفساد أو سوء الإدارة للمؤسسات العسكرية الإسرائيلية، أو غيرها كبير، وهو أكبر من أن يرصده مقال واحد. لكن، علينا أن نضع في الاعتبار أنّ حجم ما تنشره الصحافة هناك، وهو كبير، ليس إلا جزءاً من الحقيقة. وتصبح الصورة أوضح إذا أدركنا أنّ حجم ما تنجح السلطات الإسرائيلية في إخفائه عن الصحافة أكبر بكثير، وهذا يعني أنّ المشكلة أخطر من الواقع المعلن، ويشير إلى جوانب ضعف كبيرة داخل المؤسسات العسكرية في إسرائيل وفي مقدّمتها الجيش، والتي يصعُب علاجها في ظل فسادٍ أكبر يضرب في أصل النظام السياسي هناك.

 

مقالات ذات صلة