معوقات خطابية” لمشاريع النهضة العربية

سيف الدين عبد الفتاح

حرير- يسعى أستاذ مقتدر في تحليل الخطاب في العالم العربي، عماد عبد اللطيف، في دراسته الماتعة “التحدّيات الخطابية للنهضة العربية” المنشورة في المجلة العراقية “أوراق لسانية” (يونيو/ حزيران 2021)، إلى الإجابة عن سؤالين محدّدين: ما المشكلات الخطابية التي تعوق النهضة العربية؟ وكيف يمكن التعاطي معها بهدف تقليل أثرها؟ ويُعد طرح الأسئلة المركزية ومحاولة الإلمام بجوانبها المختلفة من أبرز أساليب عماد عبد اللطيف، أحد أبرز المتخصّصين في دراسات تحليل الخطاب في العالم، وليس العالم العربي فقط، فهو المحاضر في عدّة جامعات دولية، كما أن اهتماماته متعدّدة ومتنوّعة في هذا الحقل الثري؛ حقل تحليل الخطاب، ويعدّ من أبرز دارسي هذا الحقل والمؤلفين فيه في الوقت الراهن، إذ يمتاز بنشاط بحثي وتأليفي كبير يتسم بالعمق الواضح وأصالة ما يطرحه من قضايا. وبفضل الله، أنا دائم الاطلاع على ما يكتب من مقالات ودراسات وكتب تهتم بهذا الحقل، والذي عودنا هذا الأستاذ القدير أن يتحفنا بكل ما هو جديد فيه، ومقاله الذي تنوه به هذه السطور نموذج في هذا المقام، ويمكّننا من التعرّف إلى أبعاد قضية النهضة في العالم العربي وخرائطها؛ حيث قدّم خريطة لأهم المعوقات الخطابية.

تمثلت أبرز المعوقات التي رصدها عبد اللطيف في عناوين دالّة وبليغة تفوح بالمضامين والمعاني، ومسكونة بالتضمينات والمغازي؛ وعدد تلك المعوقات التي اتخذت صورا وأشكالا من مثل؛ حروب الكلام، وخطاب الكراهية، وفجوة المصداقية، وهيمنة خطاب الدعاية، والتمييز والإقصاء الخطابي، والخصام مع التاريخ، والاستبداد الخطابي، ولم يكتف برصد هذه المعوقات فحسب، بل قدّم أيضا تصوّرًا لتحويل الخطاب العربي من خطاب نهضة إلى خطاب استنهاض؛ شارحا ذلك بأنه قصد تحويله من خطابٍ يبشّر بحلم التغيير والتقدّم والتطوير إلى خطابٍ يساعد في إنجاز هذا التغيير والتقدّم والتطوير، مؤكّدا أن النهضة تحتاج، قبل كل شيء، إلى إرادة شعبية وسياسية لتحقيقها؛ فالشعوب المستكينة، والأنظمة الخاملة لا تصنع نهضةً ولا تدعو إلى استنهاض، وهذه الإرادة لا بد أن تُصاغ عمليا وعلميا في شكل مشروع قومي ممتدّ، تسنُده مقوّمات مادية كافية، محفوف بأبعادٍ معنويةٍ وخطابيةٍ لا تقل أثرًا أو خطورة، تشكّل، في بنائها وبنيتها؛ وبيانها وبيناتها، وعيًا جمعيًا بأهمية المشروع الذي يستدعي بالضرورة خطابا وطنيا محفزا.

تأتي حروب الكلام باعتبارها أولى هذه المعوّقات؛ حيث أكد الكاتب أن هذه المعارك منتشرة بصورة ملحوظة بين القوى السياسية في المجتمع العربي، وأبرز أمثلتها المليشيات الإلكترونية، وهي المجموعات المنظمة من الأفراد الذين يبثون رسائل إلكترونية بهدف ترويج أفكار أو سياسات أو أشخاص محدّدين، وقد عرفت الساحة العربية منذ اندلاع الربيع العربي انتشارًا كبيرا لمثل هذه المليشيات، وخطورتها أن الشخص العادي لا يستطيع، غالبا، اكتشافها، فهي تختلط بتيار استجابات الجماهير غير المنظّمة، بما قد يمكّنها من النجاح في تغيير مساره والسيطرة عليه، وتزداد الخطورة حين تكون المليشيات تعبّر عن تنظيمات أو عن دول وقوى خارجية. ومن هنا تتجلى أهمية وعي العرب، أفرادا ومؤسسات، بمكامن قوة فضاء التواصل الإلكتروني وخطورته في الآن والمآل، وأهمية مساءلة كل رسالة يتم إنتاجها وتوزيعها في هذا الفضاء واليقظة أمام محاولات النفاذ إلى الخطاب العام لإذكاء التمزّق والاضطراب المجتمعي. في حين يشير إلى أن خطاب الكراهية هو كل كلام أو نصّ يُشيع المقت والبغُض والازدراء والعداوة بين الأفراد أو الجماعات على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو المذهب أو اللون وغيرها، ويؤكّد أن هناك كراهيات خفية، يسترها الشخص تحت غطاءٍ من التبريرات، وهناك كراهياتٌ صريحةٌ مباشرة. ويؤدّي خطاب الكراهية إلى إثارة العداوة بين أفراد المجتمع أو شرائحه، كما أنه يُضعف من قوة الجبهة الداخلية، ويستنزف طاقات الأفراد والمجتمعات، ويؤدّي إلى استجاباتٍ متفاوتة منها العدوان والكراهية المضادة والتجاهل، والتفنيد والتسامح، مؤكّدا أن مخاطر خطاب الكراهية على إنجاز النهضة لا يتوقف على إشاعة جو من فقدان الثقة أو الغضب بين شرائح المجتمع، بل يؤدّي إلى التفريط في مكاسب المجتمع وتعريض مصالحه للخطر.

كما تحدّث عما سماها فجوة الكراهية؛ تلك التي توجد بسبب اختلاف أقوال الشخص عن أفعاله، أو التناقض بين أقواله ذاتها إما في الآن نفسه، أو بمرور الزمن، وهي تؤدّي إلى عدم الثقة. ويعدّ تحدّي فجوة المصداقية من بين التحدّيات الخطيرة التي تواجه طموح النهضة، خصوصا أنها تؤثر بالسلب على طموح النهضة لدى المجتمع بأكمله، ففجوة المصداقية تؤدّي إلى غياب حماس شرائح من المجتمع لخطاب النهضة، وتشكّكهم في إمكانيتها، بسبب افتقادهم الثقة في الطرف الذي يدعو إليها، ويزداد هذا التشكّك بالنظر إلى التحدّي الخطابي الرابع لطموح النهضة المتمثل في خطاب الدعاية؛ حيث هناك نوعان من خطابات النهضة عرفهما العالم العربي في عصره: الأول، خطاب فكري تأسّس على أرضية وسيعة من الكتابات والمشاريع الفكرية والبحثية. والثاني، خطاب سياسي إما تنتجه قوة سياسية في السلطة، أو قوى سياسية في إطار سعيها إلى الوصول إلى السلطة، وبطبيعة الحال، لاستخدام خطاب النهضة في الدعاية السياسية والانتخابية جانبان، إيجابي وسلبي، إلا أن الاستغلال الدعائي غالبا ما يؤثر بصورة أكبر على تعاطي الشعوب مع هذا الخطاب.

وعلى الرغم من ذلك، ربما يكون التمييز والإقصاء الخطابي أكثر خطورةً على مستقبل النهضة العربية، فزيادة على ما يعانيه خطاب النهضة من حالات الاحتقان المجتمعي شبه المصطنع في العالم العربي، فقد أفلح الساسة العرب على مدار العقود الماضية في تعظيم مخاطر هذا الاحتقان، وتوسيع مداه ومضاعفة آثاره، بواسطة سياسات القهر والتمييز التي سادت في عصر الجمهوريات المستبدّة، فخطاب النهضة لا يمكن أن ينجز أغراضه إلا إذا كان محتفيا بالأقليات، متّسعا للتعدّد الفكري والمذهبي، حريصا على دمجهم في إطار المواطنة، مؤكّدا على مبدأ المساواة التامة بين أفراد الشعب في كل شيء، مرسّخًا مبدأ المواطنة، بوصفه الإطار الذي يُحتكم إليه في صياغة العلاقات بين المواطنين.

وعن الخصام مع التاريخ، يرى عبد اللطيف أن الواقع السياسي الراهن يفرض ظاهرةً مؤثرةً في المجتمعات العربية، وهي وجود حالة خصام عميق بين الأنظمة الحاكمة والتاريخ السياسي للمجتمع الذي تحكمه؛ وهو ما يؤدّي إلى فصم عُرى الصلة بين مشاريع النهضة المتوالية في المجتمع الواحد؛ وهو ما يُنتج تمزّقات في نسيج التاريخ الوطني. وتزداد مخاطر هذه الخصومة في حالة ما إذا كان الماضي ما يزال حيًا على المستوى السياسي، كما تؤدّي الخصومة إلى معارك جانبية تستنزف الجهود والطاقات، وتحوّل مشاريع النهضة إلى مشاريع فئوية تخصّ أفرادًا أو جماعات أو فئات بعينها، وهو ما ينزع عنها صفة الجمعية، وختم سباعية المعوّقات بالحديث عن الاستبداد الخطابي، مشيرا إلى استمرار حالة ربط مشاريع النهضة العربية بأصحاب السلطة. ورغم فشل ذلك في الماضي، إلا أننا نعيد إنتاجه.

وعقب استعراضه هذه المعوّقات، أكد الأكاديمي المرموق على ضرورة إعادة صياغة خطابات القوى السياسية، بحيث تنحاز إلى قيم التعاون والتفاهم والتعايش والحوار، ولا تندفع في شن حملات التشويه والاغتيال المعنوي المتبادلة. وهكذا تحل الخطابات التضامنية تدريجيا محلّ الحروب الكلامية، وخطابات الكراهية، ولابد أن يترافق هذا مع مراجعاتٍ فكريةٍ هدفها التصالح مع التاريخ والتعلم منه من دون معاداته، والحرص على ردم فجوة المصداقية، وفصم الترابط بين النهضة والدعاية الانتخابية، وهو أمرٌ قد نجد عليه من القرائن القوية الدالّة على خطابات الاستقطاب في الخبرات المتعلقة بالثورات العربية الأخيرة؛ وهو ما يؤكّد إدراكا عميقا أن نجاح مشاريع النهضة مشروطٌ بأن تكون وتظلّ مشروعًا قوميًا متجاوزًا الأفراد والجماعات والفئات.

مقالات ذات صلة