هل يقرأ الإسرائيليون؟

أحمد الجندي

حرير- حين نراجع أكثر المقالات والأخبار والإحصائيات الإسرائيلية المنشورة بمناسبة أسبوع الكتاب السنوي الذي يعقد في شهر يونيو/ حزيران، نلحظ حالة قلق كبيرة جرّاء تراجع مستوى القراءة بين الأجيال المختلفة من الإسرائيليين، وهو تراجع سنوي يظهر أوضح حين يقارن الإسرائيليون إحصائيات القراءة القديمة بالجديدة؛ ففي عام 2010 كانت نسبة من لا يقرأون بتاتاً 22% من الإسرائيليين، ارتفعت النسبة إلى 33% في 2017. يلاحظ كذلك ارتفاع نسبة من لا يقرأون أي كتاب مطلقا بين البالغين الإسرائيليين، والتي تصل إلى 29%. وتظهر الإحصائيات أن النساء عامة يقرأن أكثر من الرجال؛ فنصف النساء تقريبا (47%) يقرأن مرّة أسبوعيا، مقابل 34% فقط من الرجال، وبينما لا يفتح 36% من الذكور كتابا مطلقا، تقل هذه النسبة بين النساء إلى 22% فحسب، والصورة في المكتبات العامة مشابهة لذلك؛ فالنساء أكثر استعارة للكتب من الرجال. وتكشف الإحصائيات أيضا أن نسبة 49% من فلسطينيي الداخل لا يقرأون كتباً البتّة، مقابل 24% بين اليهود، يتزامن ذلك كله مع تراجع الاهتمام بشراء الكتب في إسرائيل؛ ففي عام 2010 كانت نسبة البيوت التي تشتري كتابا تنحصر بين 10-11%، انخفضت إلى النصف في عام 2017. ولا تقلّ المشكلة خطورة بين الأطفال والشباب حتى سن 18؛ وطبقا لبيانات الهيئة المركزية للإحصاء، تزايدت نسبة من لا يقرأون مطلقاً في هذه المرحلة العمرية من 6% عام 2015، إلى 8% في 2017، ثم إلى 10% عام 2018.

وجدير بالذكر أن موقع هامداد (المقياس) الإسرائيلي كان قد نشر في فبراير/ شباط 2022 تحليلا بعنوان “كم كتاباً يقرأ الإسرائيليون؟” تناول استطلاعا يقيس مستوى القراءة، وقد طرح السؤال “كم كتاباً تقرأ؟” على 1200 مشارك، وبينت النتائج أن 16% من الإسرائيليين لا يقرأون نهائيا، و33% يقرأون ما بين كتاب واحد إلى أربعة سنوياً، و21% يقرأون من 5 إلى 10 كتب، و30% يقرأون أكثر من 10 كتب في العام الواحد.

وعلى الرغم من خطورة هذه الأرقام التي تكشف عن تراجع الاهتمام بالمعرفة والثقافة بين الأجيال المختلفة في إسرائيل، إلا أنها على ما يبدو لا تعكس حقيقة الوضع الذي ربما كان أخطر مما تكشفه تلك الاستطلاعات، إذ هناك سؤالٌ ينبغي طرحه يرتبط بمدى صدق المستطلعة آراؤهم عند الإجابة عن الأسئلة التي ستُنشر نتائجها، خصوصا حينما يكون المرجع الوحيد للتأكّد من صدق الإجابة هو الشخص المسؤول وحده، من دون أي وسيلة أخرى للتأكد، فنسب القرّاء المذكورة في موقع هامداد تبدو مرتفعة، لو كانت تمثل الحقيقة فعلا، غير أن المستشار العلمي للموقع، البروفيسور كميل فوكس، يرى أن هذه النتائج لا تمثل الحقيقة فعليا؛ وأن خبراته تؤكد أن نسبة من لا يقرأون نهائيا من الإسرائيليين أكبر من النسبة المذكورة (16%) بكثير، وغالبا هي أكبر بكثير جدا جدا. ويبرر ما ذهب إليه بطبيعة السؤال المطروح على المستطلعة آراؤهم؛ فهو لا يفحص إن كان الناس يقرأون أم لا، ولكن يكتفي بإجابتهم هم عن أنفسهم بأنهم يقرأون، أي أنه لا يدقّق في إجاباتهم. ويقول فوكس إن لدى عامة الناس ما تعرف بـ “الرغبة الاجتماعية”، والتي بسببها ينسب أغلب الناس لأنفسهم ما يظنّونه مرغوبا ومقبولا لدى الآخرين، وإن لم يكن صحيحا. وينبه فوكس أيضاً إلى أن من أجابوا أنهم يقرأون كتاباً واحداً إلى أربعة كتب في السنة ربما اضطرّوا لهذه الإجابة تجنبا للإحراج، وربما أجاب بعضهم بذلك معتبرا أن الكتاب الذي فتحه خمس دقائق في أثناء الانتظار في مقهى، أو وهو يقرأ لحفيده يمكن احتسابه ضمن الاستطلاع. في السياق نفسه، تستخدم عيريت لينور عبارة “من يزعمون أنهم يقرأون” تعليقا على الاستطلاع المشار إليه أعلاه، والذي يقول إن 33% من الإسرائيليين يقرأون كتابا واحدا إلى أربعة كتب سنويا، وهي عبارة تعكس حالة التشكك تجاه هذه البيانات. ولكن فوكس، على الرغم من ذلك، يعتبر هذه الرغبة الاجتماعية في تحسين الإجابة دليلا على اعتقاد الإسرائيليين بأن القراءة أمر ضروري؛ ومن ثم ينسبون لأنفسهم قراءة الكتب، وإن لم يكن ذلك حقيقيا.

ملاحظتان كشفتهما بيانات الهيئة المركزية للإحصاء في إسرائيل: أن هناك علاقة بين عدد ساعات القراءة والسن؛ إذ يأخذ معدّلها منحى تصاعديا، إذا اتجهنا من سن الشباب (19 – 24 عاماً) إلى كبار السن (65 عاماً فما فوق)، ويبرّر ذلك بأكثر من احتمال، كانتمائهم للجيل الذي نشأ على قراءة الكتب، أو لأن لديهم وقت فراغ أكبر. وترتبط الملاحظة الأخرى بعلاقة مستوى الدخل بالقراءة؛ إذ لوحظ تراجع الاهتمام بالقراءة كلما تدنّى الدخل؛ وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت قد نشرت إحصائية تفيد بأن 35% من محدودي الدخل في إسرائيل لا يفتحون كتابا أصلا، مقابل 15% من أصحاب الدخول المرتفعة.

واللافت هنا ما بيّنه أكثر من استطلاع رأي أن المتدينين والحريديم أظهروا اهتماما أكبر بالقراءة مقارنة بالعلمانيين، بخلاف الصورة النمطية التي يرسمها الإعلام لصالح العلمانيين. في أحد هذه الاستطلاعات، أجري على ألف إسرائيلي، قال 25% من العلمانيين، مقابل 50% من المتدينين والحريديم إنهم يقرأون أكثر من عشرة كتب سنويا. في السياق نفسه، أوضحت استبانة نشرتها “يديعوت أحرونوت” أن 72% ممن يصنّفون أنفسهم متدينين يقولون إنهم يواظبون على القراءة بشكل منتظم، وتقل هذه النسبة إلى 40% بين العلمانيين. لكن يجب التنبيه إلى أن هذه النسب تعبر عما يقوله الناس عن أنفسهم، من دون وجود وسيلة تأكد مما يقولون، وأن الكتب المتعلقة باليهودية وعلومها تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام لدى المتدينين والحريديم.

وإذا وضعنا إلى جانب ذلك أن الكتب الدينية عن اليهودية وعلومها عادة ما تمثل النسبة الأكبر بين عدد الكتب المطبوعة في إسرائيل سنويا، والتي أصبحت تتخطّى حاجز 7000 عنوان في السنوات الأخيرة (28% منها في عام 2021 كانت عن اليهودية وعلومها، تليها كتب النثر والشعر 25%)، فإن ذلك ربما يفسر سبب زيادة الاهتمام بالقراءة في أوساط المتدينين والحريديم من ناحية، ويعكس زيادة جمهور اليمين الديني من ناحية أخرى.

وبعيدا عن تحليل أسباب ظاهرة تراجع الاهتمام بالقراءة في إسرائيل، والتي يردّها المتخصصون هناك إلى استخدام الهواتف الذكية، وميل الأجيال الصغيرة تحديداً إلى قضاء أوقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتفضيل قراءة المختصرات، وتجنّب قراءة النصوص الطويلة، إضافة إلى اللجوء إلى الكتب الإلكترونية الأرخص ثمنا مقارنة بالكتاب المطبوع، فإن هذه الظاهرة التي تعد خطرا اجتماعيا كبيرا، طبقا لكلام الأديب والبروفيسور الإسرائيلي، ميرون أيزاكسون، تؤدّي إلى تراجع مكانة النثر والشعر، وتهميش دور الأدب، ما يجعل الساحة ملأى بالثرثرة الفارغة، لأننا حين نبتعد عن القراءة المعمّقة نشجّع الأفكار والتعبيرات السطحية. وينبه أيزاكسون كذلك إلى أن النضال من أجل الكتاب ينعكس إيجابا على السياسة ومنظومة القيم. ويمتد خطر هذه الظاهرة أيضا إلى اللغة نفسها؛ حيث لاحظ المسؤولون عن تعليم اللغة العبرية أن القراءة لم تعد هواية محبّبة لدى طلاب التعليم قبل الجامعي في إسرائيل، فتدهورت مهارات اللغة عندهم من عام إلى آخر؛ وتراجع انجذابهم للغة.

يبقى هنا تنبيه القارئ إلى ثلاث ملاحظات مهمة: أن عليه ألا يقارن تراجع الاهتمام بالقراءة في إسرائيل بعالمنا العربي، فالبون شاسع، والوضع في بلادنا أسوأ بكثير، ويبقى مستوى القراءة في إسرائيل مرتفعا إذا قيس بدول المنطقة. وأن أسباب ظاهرة تراجع الاهتمام بالقراءة متشابهة، لكن يضاف إليها عندنا نسب الأمية الخطيرة جدا، والقمع السياسي وغياب الحريات، وصولا إلى التجهيل وتهميش دور الأدب، نثره وشعره، والعلم والعلماء وإضعاف اللغة في عالمنا العربي. وأن لدى إسرائيل من المشكلات الكثير، وهي مشكلات تؤدي إلى تراجع وضعف بالتأكيد، لكن ما يعانيه عالمنا العربي من مشكلاتٍ أكبر هو الذي يصنع الفارق.

 

مقالات ذات صلة