السيوف الحديدية الإسرائيلية تحْرُث مياه الطوفان الفلسطيني

حرير- تستمدّ حركة حماس من سيرة النبي نوح، وتسمّي عمليتها أخيرا ضد إسرائيل “طوفان الأقصى”. وإسرائيل تردّ عليها بـ”السيوف الحديدية”. تضرب المياه بالسيوف، كأنها تحرُثها. ولأن سيولة الماء أضعفُ بكثير من صلابة الحديد، لن تحصل إسرائيل على شيء، إلا قتلى وعطْشى سوف يسكنون أصحاب الضمير من بين أبنائها. أي أنها كتبت على نفسها سلفاً بالانكسار المعنوي، بعدما أُصيبت بنوبة فشل عسكري استخباراتي أمني، إثر نجاح “حماس” في اختراق حصونها.

عشية الطوفان، كان نتنياهو يقدّم في الأمم المتحدة خريطة “الشرق الأوسط الجديد”، حيث “السلام” مع الدول العربية، و”ممرّات السلام والازدهار” مع جيرانه العرب، ولا تظهر على خريطته هذه أي إشارة إلى دولة فلسطينية أو فلسطينيين. قال: “ان طريق السلام لا يمرّ من رام الله، إنما يلتفّ عليها، فبدل ان يحرَّك الذَنَب الفلسطيني العالم العربي، أرى أن السلام يجب أن يبدأ أولا مع الدول العربية، لأن ذلك سيعزل العناد الفلسطيني”. فكانت عملية طوفان الأقصى التي فعلت العكس. نبشت من ذاكرة الفلسطينيين ثلاثة أرباع القرن من المحطّات، من التاريخ، من الاستيطان، من الطرد من الوطن… لم تبق قصّة، لم يبق حدث، أو دورة، أو تاريخ، أو مجزرة… إلا وعادوا وطفحوا.

فبدتْ إسرائيل لحظتها مثل هابيل يهرُب من عين قايين، بعدما قتَله. بقيت عين أخيه، أي الضمير، تلاحقه، حتى في هربه الأخير منها. طلب من أولاده وأحفاده أن يعمِّروا له قبراً. فنزل وحيدا تحت قبّته القاتمة، وعندما استقرّ في الظلام الدامس، طلعت عليه عين قايين، تصرّ على التحديق به. وإسرائيل بدورها مثل هابيل، لن يفلت ضميرُها العميق من العين الفلسطينية التي تلاحقه.

وسيوف الحديد التي اعتمدتها إسرائيل “خطة حرب” ضد غزّة، تجاوزت ذنوب “حماس” بقتل مدنيين إسرائيليين وخطف عدد منهم. انمحت هذه الذنوب أمام تلك الخطّة الفاقدة للمخيلة ولتكتيكات الحروب. إنها مقتلة، أو ثأر: قطع كل وسائل الحياة، وجرف بيوت مليوني فلسطيني ومعيشتهم، وتهجيرهم إلى الحدود المصرية غير المرحِّبة… ولكن، كلما ارتفع عدد ضحايا أهل غزّة انتشرت مشاهد الدم والخراب والدموع.. كلما تنشّطت الذاكرة الإنسانية، مع الفلسطينية العربية، فاستعادت مراحل إسرائيل، منذ استيلائها على فلسطين، وملاحم التصدّي الفاشلة والناجحة ضدها.

لم يأت الإفلاس الإسرائيلي من عدَم. إفلاس أمني استخباراتي أولاً. كما شاهدنا في أولى أيام الطوفان، حيث تمكّن رجال حماس من ضرب نظرية الأمن الإسرائيلي الشامل الحصين. كيف فشلت الدولة المحصّنة؟ لأنها نامت على أمجاد عجزنا. لأنها لا ترى غير انتصاراتها. وباللغة الخلدونية، هي في أولى مراحل تحلّل عصبيتها، حيث تضعُف اليقظة، تكثر الملذّات والفساد، وتتراخى الأبدان، وهي نائمة على وقع تفوّقها المطلق. وأيضاً إفلاس “نظري”، إذا جاز التعبير. باعتقاد إسرائيل أنها، بفضل هذا التفوّق الساحق على الفلسطينيين، قادرة على الإسكات والنسيان وإماتة الذاكرة، فيما العكس تماماً هو الحاصل.

وطوفان الأقصى أبرز تناقضين صارخين يحكمان العالم. الأول: الأوروبي – الأميركي. منذ اللحظة الأولى لاندلاع طوفان الأقصى، تضامنت حكومات تلك البلدان مع إسرائيل، أعلنت دعمها الكامل، أرسلت أميركا أعظم حاملات طائراتها، بدأ الاتحاد الأوروبي يلغي مساعدته للفلسطينيين، وانطلقت ألسنة التعاطف مع إسرائيل، حضر وزير الدفاع الأميركي إليها مكفهرّاً، وقال جو بايدن الشعر بحق إسرائيل إلخ. ولم يتفوّه واحد منهم بحقٍّ من حقوق الفلسطينيين، كأن أهل غزّة كانوا قبل ذلك عائشين من دون حصار، من دون اعتقال، من دون إفقار أو قتل… ناهيك عن بقية الفلسطينيين الساكنين في ما تبقى من بلدهم، كأنهم يعيشون بحرية، بلا عسكر احتلال، أو فلسطينيي المخيّمات أو الشتات… (حتى فرنسا رائدة الحريات تمنع التظاهرات المؤيّدة للفلسطينيين، مثلاً).

ولكن أوروبا وأميركا، من ناحية أخرى، كانت السبّاقة في التعاطف مع أوكرانيا منذ عامين تقريباً، بعدما اجتاحها الجيش الروسي. التعاطف الأقصى، والتسليح، والدعم الديبلوماسي، والعقوبات ضد روسيا التي تريد أن تفرض بالقوة على الأوكرانيين مصيراً وهويةً لا يريدونهما.

كيف تقف أميركا – أوروبا مع حقّ الشعب الأوكراني بتقرير مصيره، فيما تحشُد في المقابل خطابها وأساطيلها دفاعاً عن دولة أُقيمت على أنقاض شعب بأكمله؟ لغز في المنطق الأخلاقي، وحلّه في المصالح والحسابات الجيوستراتيجية… (وليس في “الدعم” الذي يمنحه الأميركيون للأصوات المعارٍضة لبشّار الأسد. دعم محدود، على كل حال، رسم “خطوطه الحمر” أوباما عام 2012، ضد كيماوي الأسد، وتراجع عنه في لحظة تجلٍ مع بوتين). أما التناقض الثاني فهو أقرب إلينا. محور الممانعة الذي يحكم مجريات أمورنا هذه الأيام لا يكتفي بالوقوف ضد حقّ شعوب المشرق بتقرير مصيرها بيديها، إنما يشترك، عبر وكلائه المحليين، في قتل هذه الشعوب وتهجيرها وتدمير حياتها، والوقوف ضد كل انتفاضاتها من أجل الحرية. في رأسها القائد الأول، إيران ضد الإيرانيين بالقتل والسحق والسجن والاعدام، ثم ضد السوريين، ضد اللبنانيين، ضد العراقيين، ضد اليمنيين… والسلاح القاتل أداته، والتنويم المغناطيسي وسيلته، مادّته أيديولوجيا الكراهية والتقسيم والتناحر الأبدي، وخططه تخريب الحيوات، وتقرير حروب خاضعة لحسابات غير وطنية.

كيف يكون هذا المحور في حال من العداء مع شعبه وشعوب الوكالات، ومؤيّداً لحقّ الشعب الفلسطيني، وداعماً سلاح تنظيماته الأشد قتاليةً؟ هو من جهة ضد شعب، أو مجموعة: مثل أن يكون فلسطينيو لبنان وسورية، من ضحايا فرع “فلسطين” من سجون الأسد السوداء، أو ضحايا حصارات، أو تهجير أو مقْتلات بحقهم… وهو من جهة أخرى، مع حقوق الشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة. كأن فلسطيني “حماس” هو غير الفلسطيني المدني العائش طول عمره في سورية… وأصلاً، كيف تكون “حماس” مؤيدة للثورة السورية في بداياتها، وكيف تتراجع عن هذا التأييد بعد “ضغوط” أو إغراءات، وتنْقلب عليها، تتصالح مع بشّار الأسد وتنضم علانية إلى محور الممانعة؟

هنا أيضا نتكلم عن “مصالح دول”. ومصلحة دولة إيران، كما عبّرت عنها قبل غزّة، هو أن تضع قدمَيها في بلدان المشرق العربي، توسيعاً لمجالها الحيوي. فلا بد ساعتها أن تقع في التناقض، في الفخّ الأخلاقي النقيض الذي تقبع فيه الآن أوروبا – أميركا.

وتوسيعاً في التناقض، أو في فروع من هذا التناقض، وزَّعت الممانعة الأدوار على جبهاتها “الموحَّدة” تحت رايتها. فلسطينيو غزّة، باستعداداتهم الانتحارية، بالبؤس الهائل المعتادين عليه، هم الأصلح للقيام بمقاولة قتالية في الباطن، تخلط كل أحجار التطبيع رأسا على عقب، فتعاد إليها “المبادرة”، أي الدور والموقع.

أما الجبهة الموحَّدة الثانية، سورية، فهي أصلاً عُرْضة لغاراتٍ شبه يومية على أرضها، طاولت أخيرا مطارَي دمشق وحلب. ولن تتجاوز حماستها لغزّة حدود كم صاروخ على الجولان، وهي تحاول الآن إسكاتها. فيما الجبهة السورية الداخلية “هادئة مستقرّة”، مع توالي الضربات الإسرائيلية على المطار بعد مخازن الأسلحة والثكنات الإيرانية.

أما الجبهة اللبنانية، فحدّث ولا حرج. ارتفعت “قواعد الاشتباك” بدرجة ملحوظة، ولكن الاندماج مع قوات غزّة بفتح جبهة حرب شمالي إسرائيل، فغير واردة، “إلا إذا استمرّ العدوان على غزّة”، وهو واقعياً مستمرّ… والمناخ مكهْرَب، واللبنانيون خائفون، والجنوبيون ينزحون، ولا أحد يريد الحرب أو يقدر عليها، إلا أن الخطابات والنبرات العالية جداً، وازدهار شعار “وحدة الجبهات”، وخبراء التلفزيون ومواقع التواصل… ولا سقف للكلام المُرسل عن انتصارات فلسطين وغزّة و”حماس” وشجاعة إيران وذكائها. كلها تنذر بـ”انتصار” شبيه بالذي أحرزه حزب الله في حرب 2006، سوف يضيق حبْله حول رقبتنا.

ستستمرّ إسرائيل تضرب بسيوفها الحديدية حتى تحفر في الذاكرة الفلسطينية وقائع نكبة جديدة، توراتية. وبعد ذلك، خذْ على تقاسم أوراق الربح والخسارة، بين أصحاب الأدوار الكبرى. هل تكون للفلسطينيين حصتهم فيها؟ أقصد الفلسطينيين أنفسهم، لا وجهاءهم أو لا أحزابهم، أو الذين ينْصبّون أنفسهم أوصياء على قضيتهم، فيحكمون بظفرهم.

مقالات ذات صلة