الغامض والواضح في واقعة النائب العدوان

محمود الريماوي

حرير- حتى كتابة هذه السطور، يلفّ الغموض واقعة إلقاء قوات الاحتلال الاسرائيلي القبض على النائب الأردني عماد العدوان عند معبر الملك حسين، وكان قادماً من الأردن بسيارته الخاصة، وقد بثت شرطة الاحتلال رواية مفادها أن النائب كان ينقل في سيارته 270 قطعة سلاح ومائة كيلوغرام من الذهب. وبينما نُشرت صورة لبعض الأسلحة المزعومة مصادرتها، لم تُنشر صورة أو لقطة مصورة لكمية الذهب الكبيرة المزعومة.

ومع الساعات الأولى لبثّ الخبر الاثنين الماضي 24 إبريل/ نيسان الجاري، تبادر إلى الأذهان أن العدوان قد عبر جسر الشيخ حسين (شمال)، وهو نقطة الحدود الأردنية باتجاه الدولة العبرية، حيث جرى إيقافه هناك، حتى تبيّن أنه كان يقصد الضفة الغربية المحتلة عبر جسر الملك حسين (اللنبي) لا النقطة الحدودية الأولى للدولة العبرية. ويكمن مصدر الغموض في أن الرواية الإسرائيلية هي، حتى تاريخه، الرواية الوحيدة عن الحادثة، علماً أن المرويات الأمنية لدولة الاحتلال غالباً ما تثير الشكوك في مدى صحتها أو دقّتها.

وقد بدا الأردن الرسمي، وهو الطرف المعني، مُفاجأً بما حدث، وأعلن متحدثون رسميون باسم الخارجية الأردنية أن الحادث موضع متابعة حثيثة مع الجهات الإسرائيلية. فيما زار السفير الأردني في تل أبيب النائب الموقوف، ونقل عنه أنه لم يمسّه سوء خلال القبض عليه وتوقيفه، في وقت شكّك فيه نواب بالواقعة، ودعوا إلى سرعة التحرّك الرسمي لإخلاء سبيل النائب العدوان، وعودته إلى بلده، وجرى التذكير بقتل حارس في السفارة الإسرائيلية مواطنَيْن أردنيَّيْن في يوليو/ تموز 2017، ومع ذلك، أتيحت للقاتل حينها مغادرة الأراضي الأردنية، برفقة أعضاء من السفارة، في يوم ارتكاب الجريمة المزدوجة.

ورغم الغموض الذي ما زال يكتنف الواقعة غير المسبوقة، جاءت هذه الحادثة في أجواء اضطرابٍ يشوب العلاقة الأردنية الإسرائيلية على خلفية الانتهاكات الإسرائيلية المنهجية والدائمة للمسجد الأقصى في القدس (ولكنيسة القيامة)، وما تحمله هذه الانتهاكات من مساس مباشر وصلف بالوصاية الأردنية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، علاوة على الأبعاد الدينية والسياسية الأخرى لهذه التعدّيات الجسيمة المرعيّة رسمياً من قوات الاحتلال. وقد تصاعدت هذه التعدّيات خلال شهر رمضان، وسعت سلطات الاحتلال إلى منع الاعتكاف في الأقصى تمهيداً لتخصيص أوقات للمسلمين للعبادة، وأخرى لليهود لاستباحة مكان عبادة المسلمين، في ما يعرف بالتقسيم الزماني والمكاني، وهي سابقة جرى تطبيقها في الحرم الإبراهيمي في الخليل. ولا يتوقف الأمر عند هذه التعدّيات، إذ ترتقع أصوات برلمانية ووزارية إسرائيلية تكشف عن مطامع إسرائيلية صريحة في الأردن، كالتي عبّر عنها وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، في باريس، الشهر الماضي (مارس/ آذار). وعليه، وبحُكم الظرف القائم، تطغى الدلالات السياسية على هذه الواقعة الملتبسة، ولسوف تستثمر سلطة الاحتلال هذه الواقعة، لمحاولة انتزاع ثمنٍ ما من الأردن في هذا الظرف، مقابل طيّ هذه الصفحة، فضلا عن استثمارها محاولة التغطية على الانتهاكات في القدس وغيرها وصرف الأنظار عنها.

وفي الأثناء، يتطلع الأردنيون إلى إجلاء الغموض عن هذه المسألة “كي يُبنى على الشيء مقتضاه”، والى الصمود في وجه المحاولات الإسرائيلية المنتظرة للابتزاز السياسي، مع أهمية الإشارة الى مسألتين على جانب من الأهمية تتصلان بهذه الواقعة: الأولى أن وجود القوات الاسرائيلية على النقطة الحدودية هو وجود أمرٍ واقع بحكم الاحتلال القائم منذ 1967، وأن التعامل مع السلطات الإسرائيلية بشأن هذه الواقعة يدخل في باب الإجراء الاضطراري، ولا ينطوي على اعتراف بالسلطة المحتلة، أو يُسبغ شرعية عليها. وقد كان النائب الأردني متوجّهاً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وليس إلى الدولة العبرية. وقد لوحظ أن دولة الاحتلال قد استغلّت الحادثة لتصوير العدوان أنه عبر نقطة حدودية إسرائيلية، وليس نقطة تسيطر عليها القوات الإسرائيلية بحكم سطوة الواقع العسكري، وهذا التمييز الواجب من الجانب الأردني مهم، لأنه يمنع الإيهام بشرعية، أو صفة وضع قانوني، على المعبر الإسرائيلي.

المسألة الثانية وتتصل بالأولى، أنه كان وما زال على الجانب الفلسطيني، بحكم أنه صاحب الولاية السياسية على الأراضي المحتلة، ألا ينأى بنفسه عن الانشغال بهذه الحادثة ومتابعتها كما حدث منذ الأيام الأولى للواقعة، فالنائب العدوان كان بصدد الدخول إلى الضفة الغربية، ويتردّد أن زيارته هذه لم تكن الأولى إلى الأراضي المحتلة، فيما تربط قبيلة العدوان، التي ينتمي إليها، وشائج اجتماعية وثيقة مع المجتمع الفلسطيني، وخصوصا في منطقة الأغوار ومدينة أريحا على الضفة الغربية لنهر الأردن، وذلك بحكم انتشار القبيلة بمحاذاة الضفة الشرقية للنهر. كان اهتمام السلطة الفلسطينية بهذه الواقعة، لو حدث، سيؤدّي إلى الإضاءة على الواقع السياسي في الأراضي المحتلة، بما في ذلك الوجود غير الشرعي الذي ينكره القانون الدولي لنقطة الحدود الإسرائيلية على الجانب الغربي لنهر الأردن. ومن الخطأ هنا التذرّع بسطوة الواقع الاحتلالي، والسيطرة العسكرية التامة في تلك المنطقة، إذ يجب تسليط الضوء على هذا الواقع الشاذّ الذي طال العهد عليه والواجب الإزالة، وليس غضّ النظر أو السكوت عنه أو التسليم بالأمر الواقع، وتركه يتكرّس في الأذهان والأعيان، مع بثّ رسالة فحواها أنه إذا كان الاحتلال يزعم انتهاك أمنه وتجاوز إجراءات السفر للقدوم إلى الضفة الغربية، فإن وظيفة الاحتلال نفسه تتركز في العبث بأمن شعب كامل والاستيلاء على أرضه ومقدّراته وحدوده البرية والجوية والبحرية. وكان وما زال في وسع السلطة أن تبدي تحفّظها على الإجراءات والتحقيقات الإسرائيلية مع النائب العدوان، وذلك لكونها لم تكن طرفاً في هذه المتابعة.

ويبقى هنا أن العلاقة مع الدولة العبرية تظلّ محكومة باعتبارات سياسية جوهرية، وبقرارات الشرعية الدولية، وليست مرهونة بحوادث وملابسات “أمنية” عابرة، وأن التقادم الزمني لا يغّير شيئا في هذه المسألة.

مقالات ذات صلة