عن غزّة و”الأخلاق” الحديثة

راتب شعبو

حرير- مع الغزو الإسرائيلي الوحشي لغزّة الذي دخل شهره الثالث، سيطر طيفٌ من الوعي الغربي المتفهم والقابل لصنوف التجاوزات الإسرائيلية الخطيرة التي تنتهك مبادئ قانونية وأخلاقية، يفترض أنها أساسيّة في المجال الثقافي الغربي. في خلفية هذا الوعي، يكمن نوع من الفوقية الثقافية التي تلامس العنصرية، حين تمنح، لمن تعتبرهم شركاء في الثقافة، الحقّ بالجريمة ضد أبناء الثقافات الأخرى، وتستنكر، إلى حدود قصوى، جرائم هؤلاء الأخيرين ضد الأولين على أنها همجيّة وشنيعة. لا نتكلّم هنا عن المواقف السياسية للحكومات أو الأحزاب، بل عن الوعي العام الذي يظهر في كلام غير السياسيين، وطريقة استيعابهم المجزرة الإسرائيلية في غزّة.

خلال المقابلة الشهيرة للمذيع البريطاني بيرس مورغان مع الإعلامي المصري باسم يوسف، قبل حوالي شهرين، شارك كاتب السيناريو الأميركي جيرمن بورينغ، وهو الرئيس التنفيذي لموقع صحيفة ديلي واير المحافظة، بمداخلة نموذجية عن هذا الوعي، مرّت من دون انتباه، نظراً إلى انشغال الناس بكلام يوسف وطريقته الساخرة غير التقليدية في شرح الموقف الفلسطيني ومفارقات الصراع الدائر. والحقّ أن محتوى مداخلة بورينغ، رغم أنها لم تتجاوز خمس دقائق، يعبّر عن تيار دارج من الوعي الذي يشكل هجوماً “مدنياً” موازياً على غزّة وأشباه غزّة في كل مكان من العالم. ذلك لأنه يتّجه إلى تسويغ الجريمة الإسرائيلية على غزّة، وكل جريمة مشابهة، ليس فقط بإنكار كونها جريمة، بل وبجعلها في انسجام مع المنطق والأخلاق.

يبدأ الرجل في الرد على السؤال الساخر المرّ الذي طرحه يوسف عن عدد الفلسطينيين الذين يتوجب قتلهم كي ينتهي هذا الهجوم الإسرائيلي، فيجيب بأن العدد غير محدود إلا “بقدر ما يتطلّبه الأمر”. لا يحدّد بورينغ هذا “الأمر”، وليس هذا تقصيرا منه، فالقادة الإسرائيليون أنفسهم لم يحدّدوا بوضوح “أمرهم” سوى بالكلام عن اقتلاع حركة حماس والخلاص من التهديد على مستوطنات غلاف غزّة. ولا يستوقف الرجل سؤال بسيط مثل: ماذا لو كان “الأمر” هو اقتلاع شعبٍ من أرضه لكي تنتهي إسرائيل من التهديد الذي يشكّله وجود هذا الشعب؟ فلا أهمية لمثل هذا السؤال لديه.

يكمل الرجل منطقه في الإجابة عن سؤال المذيع بشأن الرد المتناسب، فيقول “لا أحد يريد ردّاً متناسباً” مع ما قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر، “ولا يمكن لأي شخص أخلاقي أن يدعو إلى ردّ متناسب. الغرض من الحرب أن تهزم عدوك”. هكذا يصبح من يتكلّم عن الرد المتناسب شخصاً بعيداً عن الأخلاق (ليس أقلّ من ذلك)، لأن في كلامه هذا ما يمنع “هزيمة العدو”، وهي، بحسب هذا المنطق، غاية تبرّر كل وسيلة. ولكن، في الصراع العياني الجاري في فلسطين، من الذي لا يعلم ماذا تعني هزيمة العدو في المقياس الإسرائيلي؟

بديهي أن من يرفض مبدأ التناسب في الردّ هم الأقوياء الذين يستخدمون قوّتهم ليس لحماية أنفسهم، بل لسلب حقوق الآخرين، واستخدام القوة “غير المتناسبة” من أجل “هزيمة العدو” أو محوه وإلغاء وجوده. يكاد الأمر يكون واضحاً بذاته، ولكن ما يضيفه بورينغ اعتبار الردّ غير المتناسب فعلاً أخلاقياً، ما يعني أن التضامن مع الضعيف المسلوبة حقوقه في صراعه مع القوي الغاصب لا ينضوي تحت خانة الخطأ والصحّ، أو تحت خانة المواقف السياسية ذات المردود السلبي أو الإيجابي، بل هو فعلٌ غير أخلاقي. سحق الضعيف مسلوب الحقّ إذا ما تجرّأ يوماً على “إهانة” القوي الغاصب، يجب النظر إليه، وفق هذا المنطق، أنه فعلٌ أخلاقي.

يمضي بورينغ خطوة إضافية في المحاجة التي تسعى إلى جعل الأقوياء يحتكرون الأخلاق أيضاً، فيقول “الطريقة الوحيدة لتبرير الحرب أخلاقياً هي الفوز بها”. لا ينطوي هذا القول فقط على دمج الحروب كلها في خانةٍ واحدة، فيكون الاعتداء كالدّفاع عن النفس، بل يعني أيضاً أن القويّ يمتلك التبرير الأخلاقي في جيبه، بقدر ما يضمن الفوز.

ثم يتابع بورينغ منتقداً من يقول إن الحرب التي تقتل عدداً أقلّ من الناس أكثر أخلاقية من التي تقتل عدداً أكبر، ومعتبراً أن هذا ليس سوى ضرب من النفاق. ينتمي الرجل من حيث الجنسية إلى أميركا أقوى بلد، ويدافع عن إسرائيل أقوى بلد في منطقتها، فلا عجب أن يكون معبّراً في منطقه عن الأقوياء الذين لا يبالون بحقوق الضعفاء أو حياتهم. ومعلومٌ لكل من يتنفّس هواء على هذا الكوكب أن هذا المنطق، وإن كان يستُره، في غالب الأحيان، كلام سياسي موارب، ساري المفعول في الواقع الدولي إلى حدّ كبير، وأن الظلم ملحُ الأرض، ولا يبقى للمظلومين غير الأخلاق ينادون بها وتمنحهم شيئا من التفوّق المعنوي. ولكن بورينغ يلاحق الضعفاء حتى هذا الميدان، فالأخلاق هي في صفّ من يفوز في الحرب، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر. وبالنسبة له، الكلام عن تكافؤ أخلاقي بين من يقتل المدنيين بسلاح فردي ومن يقتلهم بالقصف مجرّد هراء. مرّة أخرى، توضع الأخلاق في صفّ من يمتلك القوة والتفوق التقني الذي يسمح للقاتل بالقتل من دون أن ينظر في عين الضحية أو أن يراها، حتى لو كان ضحاياه أكثر وتدميره أوسع بما لا يُقاس.

قد يقال إن بورينغ ليس رجل سياسة كي يؤخذ كلامُه بهذه الجدّية، ولكن هذه الحقيقة، أي كونه كاتب سيناريو ومديرا تنفيذيا وليس رجل سياسة، هي ما تعطي لكلامه معنىً هاماً، ذلك أنه يعبّر عن وعي عام يتشكل ويُعمل عليه ليكون “عمقاً استراتيجياً” لأهل سياسة القوة. والحقيقة أنه يُعمل على تشكيل هذا التيار من الوعي العام وترسيخه عبر الوسائل الناعمة مثل ألعاب الفيديو والمسلسلات والأفلام الحديثة التي تعزّز، في معظمها، حبّ القوة وتكوين مقبولية نفسية وأخلاقية لصالح الطرف القوي على حساب مبادئ أخلاقية إنسانية مستقرّة. وليس العرض التسويقي الأخير لشركة الملابس “زارا” الذي يتضمّن صور عرض أزياء وسط خراب وجثث بالأكفان البيضاء، يحاكي الحال الراهن في غزّة، سوى جزءٍ من مسار التطبيع النفسي والأخلاقي مع قتل الضعفاء على يد الأقوياء الذين إذا غضبوا لا ينسجم انتقامهم الرهيب مع “الأخلاق” الحديثة فقط، بل يصنعها أيضاً.

مقالات ذات صلة