بعيدًا عن الأرقام الصماء

حسين الرواشدة

 

وسط الجدل السياسي المحتدم حول اوضاعنا في اقليم مضطرب، وآفاق الإصلاح وورشاته التي لم تفتح بشكل جدي بعد، أستأذن بالتذكير باهم القضايا والهموم الاساسية التي تشغل أغلبية المواطنين في بلادنا.
احدى هذه القضايا وأهمها «العيش الكريم»، وقد تبدو هذه المشكلة للمسؤول الذي يعتمد على «الأرقام» الصماء، سواءً تعلقت بمعدلات البطالة أو الفقر، بسيطة وفي اطار التوقعات، لكنها غير ذلك تماماً، ولو قدر لأحدنا ان يخرج من عمان الى الأطراف البعيدة ويتفحص في أحوال الناس لرأى بعينيه مشاهد مؤلمة لأسر لا تجد ما يكفيها من طعام او من دخل للانفاق على مستلزمات الحياة الضرورية، بل ان بعض الذين كانوا محسوبين على الطبقة «الوسطى» والمستورة وجدوا أنفسهم في عداد الطبقة الفقيرة، بعد ان تآكلت دخولهم، وتوسعت دوائر انفاقهم على تعليم أولادهم في الجامعات وعلى تلبية المتطلبات الأساسية لأبنائهم.
اذا وقعنا اكثر في مشكلة «العيش الكريم» سنكتشف أن ثمة ارتباطاً بين الرضا والكرامة، او بين الشعور بالاكتفاء والاحساس باحترام الذات، كما سنكتشف بأن المسألة لا تتعلق فقط بالفقر الذي كان فيما مضى مقبولاً بدافع «القدرية» والعصامية، انما تتعلق باتساع الفجوة بين الطبقتين: طبقة الاثرياء التي تمثلها الاقلية، وطبقة الفقراء التي اتسعت لتشمل الأغلبية، وتتعلق بتفاوت الأجور والرواتب مع غياب معايير العدالة والكفاءة وانتشار المحسوبية، كما تتعلق بالاحساس العام لدى هؤلاء بشيوع ممارسات الفساد، وانتشار ثقافة النهب وقيم الشطارة التي مكنت البعض من الاثراء على حساب الآخرين ومن جيوبهم.
اذا اضفنا ما يشعر به اغلبية «المهمشين» من رغبة بإعادة الاعتبار لهم، باعتبارهم ضحايا لتراكمات من الأخطاء والتقصير، ومن ارادة على تغيير اوضاعهم وتصحيح المعادلات التي اوصلتهم الى هذه النتيجة، ورفع المظلومية التي يعانون منها، فإن أمامنا فرصة لفهم «حالة» مجتمعنا واسباب احتجاجاته وخروجه للشارع على مدى الاعوام المنصرفة، صحيح ان للمطالب السياسية حضوراً لافتاً في الشارع،، لكن الصحيح ايضاً ان وراء كل ما نراه، وما نخشاه ايضاً، أزمة «معيشية» واقتصادية تزامنت مع «انغلاق» لأبواب الحوارالجاد والمثمر، واستمرار باعتماد منطق الانكار ومحاولات لاستفزاز وجع الناس، وهذه كلها ولدت لدى المواطن حالة من اليأس والرغبة في الانتقام من نفسه احيانا ومن الاخرين ايضا.
الخطر الذي يواجهنا اليوم لا يتعلق «بالاشتباكات» السياسية بين النخب سواءً أكانت في موقع القرار او المعارضة، ولا بالرياح الساخنة التي تهب علينا من الخارج، انما يتعلق بافتقاد المواطن القدرة على توفير «العيش الكريم» لمن يتحمل مسؤوليتهم، واحساسه بغياب العدالة وبالتهميش واستنزاف ما يأتيه من دخل اكثر واكثر.
أعرف ان المشكلة الاقتصادية معقدة، وان ثمة مديونية وعجزا في الموازنة وانقطاعا للمساعدات الخارجية الموعودة، ومخاوف مشروعة من ازمة يصعب السيطرة عليها، لكن ذلك كله لا يمنع، بل يستدعي التفكير جدياً في معيشة المواطن باعتبارها «خطا أحمر» لا يجوز تجاوزه ابداً.

مقالات ذات صلة