باب المندب على صفيح ساخن

علي العبد الله

حرير- شكّل منع حركة أنصار الله (الحوثيين) اليمنية السفن الإسرائيلية والسفن المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية من المرور عبر مضيق باب المندب توسيعا للمواجهة الدائرة بين القوات الإسرائيلية وكتائب الشهيد عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والفصائل الفلسطينية الأخرى في قطاع غزّة، وتصعيدا للضغوط الإقليمية والدولية على الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية من أجل وقف الإبادة الجماعية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني هناك. وقد جاءت الضربات الجوية والصاروخية التي وجهتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد مواقع عسكرية لـ”الحركة” على الأرض اليمنية لتصب الزيت على نار المواجهة وترفع درجة التحدي في ضوء تمسّك “الحركة” بموقفها ووضعها السفن الأميركية والبريطانية على قائمة أهدافها، واستهداف بعضها، وتوجيه ضربات أميركية استباقية ضد مواقع إطلاق الصواريخ والمسيّرات على البر اليمني، بلغت إلى كتابة هذه السطور سبع ضربات، واعتراض الصواريخ والمسيّرات التي تطلقها “أنصار الله” باتجاه سفن الشحن والقطع البحرية الأميركية والبريطانية.

وتدفع الضربات الوضع نحو مزيدٍ من التصعيد يُنذر بانفجار مواجهةٍ إقليميةٍ شاملة، فهي إعلان واضح من الولايات المتحدة عن أنها متمسّكة بدورها وحضورها في منطقة لها أهمية استراتيجية بالغة لمصالحها ومصالح حلفائها، وأنها لن تستنكف عن الضرب بقوة للحفاظ على هيمنتها وسيطرتها على هذا الممرّ الملاحي الدولي الهام. يتم عبور 15% من السلع المستوردة من آسيا والخليج العربي إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا، و21.5% من النفط المكرّر، وأكثر من 13% من النفط الخام و30% من تجارة الحاويات من البحر الأحمر.

أرتبط تحرّك حركة أنصار الله اليمنية في البحر الأحمر بتقاطع مصالح بينها وبين إيران تحقق هي مكانة لدى الرأي العام العربي من خلال ربط تحرّكها بدعم الشعب الفلسطيني وتحدّيها الولايات المتحدة، التي باتت مكروهة لدى الرأي العام العربي والإسلامي على خلفية تأييدها ودعمها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، ما يحوّلها إلى قوة إقليمية، ويضفي على طموحاتها شرعيةً، ويعزّز دورها في مستقبل اليمن. وتحقق إيران بإبراز نفوذها في الإقليم عبر إشعال كل الجبهات الممكنة بواسطة أذرعها المليشياوية في سورية والعراق ولبنان واليمن، وتوظيف ذلك لحجز موقع متقدّم في المساومات السياسية والدبلوماسية لتحقيق هدفها الجيوسياسي والجيواستراتيجي بالاعتراف بنفوذها في الإقليم والتسليم به. واستخدام سردية مساندة الشعب الفلسطيني في التحريض على التحرّك الأميركي، بدءا بالهدف من تشكيله تحالف “حارس الازدهار” وصولاً إلى توجيهه الضربات ضد مواقع “الحركة” باعتباره دعما لإسرائيل في عدوانها على الفلسطينيين، ما وضع الإدارة الأميركية أمام معضلة تبرير تحرّكها العسكري، الذي تقول إنه رد على مهاجمة “الحركة” للسفن التجارية العابرة من مضيق باب المندب، وتهديدها حركة الشحن في هذا الممر الدولي الحيوي، والعمل على فصل تحرّكها عن المواجهة الدائرة في قطاع غزّة. فللبحر الأحمر، بموقعه ودوره في الملاحة الدولية، أهمية كبيرة جعلته ساحة لصراع جيوسياسي بين القوى العظمى عبر السعي إلى حجز موطئ قدم فيه، وبالقرب من ممرّه الحيوي، حيث القواعد الأميركية والفرنسية والصينية متجاورة ومتزاحمة في جيبوتي، والقاعدة الروسية في ميناء بورتسودان السوداني، ما جعل الموقف فيه دقيقا وحسّاسا وخطرا، زاد في خطورته سعي قوى إقليمية متوسطة إلى لعب دور وازن فيه من خلال إقامة قواعد عسكرية على سواحله ونشر قطع بحرية في مياهه، تركيا وقاعدتها في الصومال، كانت بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية بالاتفاق مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، ألغي الاتفاق بعد إطاحته، وإيران وقاعدتها في ميناء عصب الإريتري وإسرائيل وقواعدها في أرخبيل دهلك الإريتري، جزر “ديسي” و”دهوم” و”شومي”، والسعودية في جيبوتي، وقوى صغيرة مثل الإمارات في ميناء عصب الإريتري وجزيرة سوقطرى اليمنية، وسيطرة قوى يمنية متنافسة على جزر وموانئ اليمن، حركة أنصار الله على موانئ الحديدة والصليف والمكلا، وقوات المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق صالح، ابن شقيق الرئيس اليمني الأسبق علي عبد الله صالح، على باب المندب، والمجلس الانتقالي الجنوبي على ميناء عدن والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا على ميناء المخا.

أثارت الضربات الأميركية البريطانية مخاوف القيادة الإيرانية من إضعاف عزيمة “الحركة” واستسلامها للضغوط العسكرية، خصوصا بعد سحب البحرية الإيرانية قطعها من البحر الأحمر إبّان القصف الأميركي البريطاني على مواقع “الحركة”، لتحاشي الاستفزاز والمواجهة المباشرة؛ وتحوّل المواجهة على جبهة جنوب لبنان بين حزب الله والقوات الإسرائيلية على الضد من طموحاتها في ضوء تصعيد القصف الإسرائيلي وتوسّعه واستهدافه مواقع وقيادات فرقة الرضوان وقتل عدد من قادتها، فلجأت إلى استعراض ضخم للقوة بعرض عضلاتها العسكرية وقدراتها الصاروخية، مداها ودقّتها، بقصف مواقع في كردستان العراق وسورية وباكستان، في رسائل إلى الداخل الإيراني والحلفاء في الإقليم، لرفع معنوياتهم وتعزيز ثقتهم بها، وللأعداء، لردعهم ولجم اندفاعاتهم بعد قيامهم بأعمالٍ تشي باستخفافهم بها وبقدراتها الردعية: تجاهل حكومة الإقليم تحذيراتها بشأن وجود قواعد لأحزاب كردية إيرانية على أرض الإقليم تعمل ضد النظام الإيراني؛ تفجير كرمان قرب قبر قاسم سلياني ذهب ضحيته أكثر من مائة مدني تبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قتل العشرات من ضباط الشرطة الإيرانيين في انفجار هز قاعدتهم في مدينة راسك قرب الحدود الباكستانية تبنّاها جيش العدل البلوشي الذي يقيم قواعده داخل باكستان. لكن الرد الباكستاني السريع بضربة داخل الأراضي الإيرانية (80 كيلومتراً عن الحدود)، بعد يومين من الضربة الإيرانية، والغارة الإسرائيلية على مبنى في حي المزّة الدمشقي وقتل خمسة من قادة الحرس الثوري الإيراني، بينهم مسؤول استخبارات فيلق القدس في سورية والعراق، أجهض خطوتها لاستعادة قوة ردعها ودفعها إلى تحريك أذرعها في الحشد الشعبي العراقي لقصف قاعدة عين الأسد بـ20 صاروخا بالستيا متوسّط المدى. اعتبر استخدام الصواريخ البالستية مجازفة وتصعيدا خطيرا رفع درجة التوتر في العراق.

جدّد التصعيد الميداني في أكثر من موقع الهواجس والمخاوف الإقليمية والدولية من الانزلاق نحو مواجهة شاملة نتيجة تهور بعضهم أو خطأ في حساباتهم، فإيران، التي سبق ونأت بنفسها عن عملية طوفان الأقصى، عادت لتربط التصعيد الميداني الحاصل نصرة للشعب الفلسطيني بتشكيلها وتفعيلها محور المقاومة وتوظيفها لمليشياته في المواجهة المشتعلة، ما يجعل مطالبتها بمكاسب استراتيجية في الإقليم، وأبرزها خروج الولايات المتحدة منه، أمرا مبرّرا. وقد شجّعها على رفع سقف مطالبها تقديرها لحساسية اللحظة السياسية بالنسبة للإدارة الأميركية، سنة انتخابات رئاسية، وعدم وجود إجماع غربي حول قيادة الولايات المتحدة قوة “حارس الازدهار”، حيث تحفّظت فرنسا وإسبانيا وإيطاليا على ذلك، وقرار الاتحاد الأوروبي تشكيل قوة بحرية خاصة لحماية الملاحة في البحر الأحمر، ورفض دول عربية وازنة، السعودية ومصر والإمارات، المشاركة فيها. لكن وجاهة هذه الاعتبارات لا تلغي وجود نقاط ضعف في موقفها، أبرزها الحرج الذي تسبّبه لها عمليات إسرائيل ضد قادتها العسكريين في سورية وضد قوة النخبة في حزب الله اللبناني، فرقة الرضوان، ما جعلها في موقفٍ دفاعي لا تريد البقاء فيه، وثانيها عدم قدرتها على الجزم بمدى سيطرتها على قرار حركة أنصار الله والحدّ من طموحاتها الكبيرة للعب دور قوة إقليمية، على شاكلة حزب الله اللبناني، تعتقد “الحركة” أنها حصلت على ذلك من خلال مواجهتها مع الولايات المتحدة في البحر الأحمر، واندفاعها نحو التصعيد من أجل تأكيد ذلك، والتي قد تدفع الأوضاع نحو حرب إقليمية واسعة، وهو ما تحاول القيادة الإيرانية تجنّبه خوفا من نتائجها غير المضمونة، وعدم الجزم بقدرتها على استخدام “الحركة” ورقة مساومة وجعلها عند منعطف محدّد توقف هجماتها ضد سفن الشحن والقطع البحرية الأميركية والبريطانية. وقد زاد موقفها دقّة وحرجا تغيير الإدارة الأميركية مقاربتها في التعاطي معها ومع أذرعها، حيث باتت تحمّلها مسؤولية أعمال أذرعها وتردّ على كل ضربة على مواقعها في سورية والعراق واليمن بقوة أكبر.

الإدارة الأميركية هي الأخرى عالقة في مأزق دقيق، من جهةٍ لا يناسبها الانخراط في حربٍ إقليميةٍ واسعة في سنة انتخابية. ومن جهةٍ ثانية، لا يناسبها أن تبدو متردّدة في مواجهة الهجمات المتصاعدة ضد قواتها في سورية والعراق وضد السفن في البحر الأحمر، خاصة مع تعالي أصوات في الكونغرس تطالبها باستهداف النظام الإيراني وأذرعه عبر حملة شاملة من الإجراءات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والاقتصادية، فلجأت إلى الضربات الجراحية ضد أذرع إيران في سورية والعراق، وأخرى استباقية ضد حركة أنصار الله في اليمن، وضعتها “الحركة” بمواصلتها عرقلة مرور السفن أمام خيار التصعيد والذهاب لمواجهة واسعة معها في حربٍ مديدة، وقد أضعف موقفها المؤيد والداعم للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة وموقفها الرخو من عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وعجزها أما تعنت نتنياهو فرصها في تشكيل تحالف واسعة ضد “الحركة” وتسويق سرديّتها عن اليوم التالي في غزة وشكك في جدية طرحها لحل الدولتين.

التوتر شديد والأسلحة مذخّرة ولحظة الانفجار ليست بعيدة، ما لم تتغير المقاربات وتبدأ خطوات عملية على طريق التهدئة ونزع فتيل المواجهة.

مقالات ذات صلة