سيرة نابلس في مذكّرات حمدي كنعان

منى عوض الله

حرير- لا تخلو المذكّرات، بما هي كلام استعادي يتمحور حول تاريخ إنسان واقعي ومدينة/ مدن واقعية، من قصدية ذاتية، تظهر أولًا في حدّها الزمني، وثانيًا في ما ينتقي صاحبها سردَه من حوادث، وهو بالطبع غير ملزم بنقلها جميعًا، وبكامل تفصيلاتها، لكنها، في المقابل، تقدّم لسيرة المكان توثيقات علائقية بين الأرض والإنسان والعمران والمجتمع وأنظمته السيادية، وهو ما يُرى في مذكّرات حمدي كنعان التي حققها ودرسها المؤرّخ بلال شلش، وأصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان “شيء عابر: نابلس تحت الاحتلال (حزيران/ يونيو 1967 – آذار/ مارس 1969): مذكّرات ووثائق حمدي طاهر كنعان”. فالكتاب، كما يتحدّث عن نفسه، سيرة مزدوجة لمدينة نابلس ورئيس بلديتها حمدي كنعان الذي كان شاهدًا على استعمارَين وحربَين مفصليّتين، وعضوًا فاعلًا في الحياة العامة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في ظل الظروف التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي. ولا يعبّر صاحب هذه المذكّرات في نصّه عن ذاته فحسب، بل يشمل فيه جملة هذه الشبكة المتداخلة والمترابطة من العلاقات في مدينة نابلس، خلال مدة تحدّدت بنحو عام وثمانية أشهر، ووقائعيًا بالفترة بين أول أيام الاحتلال للمدينة بعد حرب حزيران 1967، وآخر يوم غادر فيه حمدي كنعان مكتبه في دار البلدية بعد استقالته بتاريخ 13 مارس/ آذار 1969.

تُجدّد نابلس في هذا العمل سيرتها المعهودة في الصمود والمقاومة، وعادة ما يطرح الحديث عن المقاومة أسئلة بشأن الحرية والتقدّم والأنا والآخر، وهي أسئلة حاضرة ضمنيًا في صفحات الكتاب التي تؤرّخ لبعضٍ مما لم يؤرَّخ له من معارك الوجود والهُوية التي خاضها الفلسطيني في مواجهة الآخر – المحتل، الساعي إلى نفيه وإلغائه، لعل أبرزها معركة المناهج التعليمية التي وُظفت فيها من أدوات المقاومة الشعبية الإضرابات والمظاهرات والعرائض، ثم معركة الاقتلاع والتهجير التي فتحت بابًا لما يمكن تسميته الحراك الدبلوماسي المبكر لإعادة المهجّرين إلى مدنهم وقراهم التي أُخرجوا منها. وفي المعركتين، كان لحمدي كنعان موقفه الذي عبّر عنه بإجراءات عملية أتاحها له منصبه، وأقوالٍ واضحةٍ صرّح بها مرّة في أحد لقاءاته مع وزير الدفاع الإسرائيلي، بقوله: “إن كل القوانين والأعراف الدولية تقرّ للشعب المحتل بحق المقاومة، وبأية طريقة، ونحن بدورنا علينا أن نقاوم احتلالكم”. ومرّات أخرى في لقاءات صحافية عدة، منها لقاؤه مع مراسل صحيفة أوبزيرفر، وقد قال فيه: “أما عن رأيي بالمقاومة المسلحة فهي نابعة من آلام الفلسطينيين بما حدث لهم، وآمالهم في التوصل إلى حقوقهم والتخلص من الاحتلال. وحركات المقاومة لأي احتلال هي ظاهرة طبيعية عند جميع الشعوب”.

بدأت معركة تغيير المناهج التعليمية، كما يؤرّخ لها الكتاب، بعد أسابيع معدودة من أول أيام الاحتلال، حيث أُقرّت، بتاريخ 7 أغسطس/ آب 1967، مقترحات وزارة التعليم الإسرائيلية بتحضير منهاج معدل للمدارس في الضفة الغربية، وتغيير 49 كتابًا رأت فيها اللجنة السباعية التي ضمّت لجنة التنسيق واللجنة الوزارية تحريضًا على إسرائيل واليهود، ودار نقاش حول المناطق التي سيشملها هذا القرار، ثم أُعيد النظر في عدد الكتب الملغاة، واتُّفق على تقليصها قدر الإمكان. دفع هذا التوجّه نحو أسرلة المناهج، المعلمين في الضفة الغربية إلى إعلان استنكارهم الذي بدأ بعريضة احتجاج وقّعها مئتا معلم من جنين، تبعتها موجةٌ من العرائض في القدس والضفة الغربية، ثم لحقها تصعيد وإضرابات ودعوات إلى الاستنكاف عن العمل، لينتقل بذلك حراك المقاومة إلى ميدان التربية والتعليم، وهو ليس من ميادينها الجديدة أو المستحدثة، إنه، كما تقدّمه النظريات، الفضاء أو العالم الجديد الذي يتحتّم على المستعمَر أن يُحدثه خارج دائرة رقابة المستعمِر، ليحفظ من خلاله وجوده، وينظّم صفوفه، ثم يحقّق استقلاله المنشود، شرط أن يُطبع بطابع وطني، يربط مصلحة الفرد بمصلحة الجماعة ومصيره بمصيرها، ويمنع تحوّل أبناء البلد إلى أدوات خاضعة لإرادة سلطة الاحتلال، وهو ما ناضل في سبيله الأهالي والمعلمون وطلاب المدارس، وعقد لأجله رئيس البلدية لقاءاتٍ مع سلطات الاحتلال، وتشكلت في سياقه لجنة من مديري التربية والتعليم في الضفة الغربية للتباحث بشأن الفقرات والعبارات التي يرُاد حذفها من الكتب والمناهج الأردنية، وكانت ثمرة هذا الحراك المتكامل أن أصدرت سلطات الاحتلال، بتاريخ 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1967، قرارًا بإبقاء المناهج على حالها، بعد حذف فقرات وعبارات تمسّ إسرائيل، وتقليص عدد الكتب المحذوفة إلى أربعة كتب فقط، لتسجّل المدينة بذلك انتصارها المرحلي الأول.

أما مقاومة نزوح الأهالي إلى نابلس التي أرادها الاحتلال محجًا للمهجّرين من المدن والقرى المجاورة، فتأتي في سياق جملة وقائع يسردها الكتاب منذ اليوم الأول من أيام الاحتلال، ففي 6 يونيو/ حزيران انسحبت قوات الجيش العربي الأردني، وبدأت الأخبار تتتابع عن سقوط المدن الفلسطينية، وفي اليوم التالي، ألقت طائرات الاحتلال منشورات تعلن اقتراب دخول قوات الجيش الإسرائيلي المدينة، وتطلب من السكان التزام بيوتهم ورفع الرايات البيضاء. وبالفعل، دخلت الدبّابات، واشتعلت معارك، وقُصفت بيوت، واستشهد مقاومون، وجُمع السلاح، ثم شيّعت المدينة شهداءها، وبدأ المبعدون يتوافدون من طولكرم وجنين وقلقيلية والقرى الأمامية، بعد أن نُهبت بيوتهم وأُحرقت ونُسفت، وأُرغموا على الرحيل من قراهم. وجاء مندوبو سلطات الاحتلال يطلبون من رئيس البلدية إرشادهم إلى مكانٍ مناسب لإقامة مخيم للاجئين من أهالي قلقيلية الذين شكلوا غالبية اللاجئين، فرفض أن تكون له يد في الأمر، ورفض كذلك إصدار تصاريح تمكّنهم من الهجرة إلى الضفة الشرقية، حتى بعد أن زاره وفدٌ من وجهاء المدينة لهذه الغاية. كان كنعان مدركًا خطورة المسألة، فبدأ تحرّكاته بالاتصال بقنصل الولايات المتحدة وقناصل الدول الأخرى في القدس للضغط على إسرائيل لإعادة المهجّرين، ثم التقى وزير الدفاع الإسرائيلي حينها موشيه دايان، وظلّ مصرًا على موقفه بضرورة عودة اللاجئين إلى مدينتهم إلى أن وافق دايان، بل أرسل مهندسين من بلدية نابلس إلى قلقيلية لإصلاح البيوت وتأمين الكهرباء والمياه في المناطق المتضرّرة لتشجيع الذين هُدمت بيوتهم تحت القصف على العودة إليها، وهذا ما كان، فتحقق لنابلس نصرها الثاني.

هذان نصران حققتهما مدينة محتلة بلا أسلحة أو مقاتلين، خلا إرادة أهلها وصمودهم. وهما إذ ذاك يقدّمان تصوّرًا مهمًا لما يدور في أذهان غير المقاتلين في صفوف الثورة، ولشكل علاقتهم بها، أي إنهما يعكسان حالة التأهب الجماهيري للثورات الذي، كما يقول كانط، يظلّ يعود وجوبًا إلى ذاكرة الشعب كلما تجدّدت الظروف الملائمة لها. وإذا كان الكتاب يغطي هذا الجانب من مقاومة المدينة، فإنه أيضًا لا يُغفل ذكر المقاتلين ومقاومتهم المسلحة التي بدأت مباشرة منذ اليوم الأول للاحتلال، كما يقف على حدود العلاقة بين الأفراد الفاعلين في الفعل الثوري المسلح والآخرين غير المنخرطين فيه، وهو ما يظهر جليًّا في حوادث نسف بيوت المتهمين بدعم الثوار والمتعاونين معهم، أي أولئك الذين شكّلوا حاضنة شعبية للمقاتلين يؤوونهم ويُطعمونهم ويسندون فعلهم المقاوم، وهو ميدان بحثٍ غنيٍّ يفتح الكتاب له بابًا واسعًا، إلى جانب أبواب بحثٍ أخرى يغذّيها بالشواهد والوقائع، منها من موضوعات المقاومة السلبية أو المقاومة اللاعنفية نموذج إضرابات المدارس، ونضال المرأة الفلسطينية الذي سجّلت فيه نساء نابلس حضورًا مبكرًا وفاعلًا، وغيرها من قضايا يستطيع قارئ الكتاب أن يتناولها بالدراسة والبحث لو أراد.

مقالات ذات صلة