الاقتتال في السودان … مقدّمات أساسية

ماجد عزام

حرير- تثير الاشتباكات بين الجيش الشرعي ومليشيا الدعم السريع في السودان الغضب والأسف، لدلالاتها وآفاقها ما بين التحوّل إلى حرب أهلية مستمرّة أو انكفاء مسؤول مليشيا الدعم محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى معقله في إقليم دارفور وبداية معركة استنزاف مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها التقسيم العلني أو شبه الرسمي للبلاد.

بداية ومنهجياً، لا يمكن مقاربة الاقتتال الجاري من دون استحضار معطيات ومحطّات أساسية، أولها ظروف تشكيل قوة (ميليشيا) الدعم السريع في العام 2013 بقرار من رئيس النظام السابق عمر البشير، لمواجهة حركات المعارضة المسلحة في إقليم دارفور، والذي كان تعبيراً مباشراً وصريحاً عن المنحى الاستبدادي للنظام مع تجاوز مخرجات الحوار والتوافق الوطني ووثائقه، التي كان قد دعا إليها هو نفسه، والأهم من ذلك كله التعبير عن حقيقة رفضه التوصل إلى حلّ عادل ونزيه وتوافقي لقضية الإقليم مع أبنائه وممثليه الشرعيين على قاعدة ديمقراطية تكفل تقاسم السلطة وتوزيع أعبائها وثرواتها بشكل ندّي ومتساوٍ ليس في دارفور وإنما في الخرطوم والسودان ككل.

مرتبطا بما سبق، كان اتهام مقاتلي الحركات المسلحة بدارفور بالانتماء إلى حزب المؤتمر الشعبي ومؤسسه وقائده آنذاك حسن الترابي رحمه الله، علماً أن الانقسام في الخرطوم ودارفور كان نتاجاً لاستئثار البشير بالسلطة ورفضه الاعتراف بالوقائع، وفشل انقلاب 1989 ووصوله إلى طريق مسدود مع معارضة الخطوات الإصلاحية الجذرية والجادّة التي دعا إليها الترابي نهاية تسعينيات القرن الماضي، وشملت ضرورة تأسيس نظام مدني ديمقراطي تعدّدي مع حلّ مشكلة الجنوب حلاً عادلاً “توصل إليه فعلاً بعد ذلك عبر وثيقة تاريخية مع جون قرنق في جنيف”، وقيام الجنرال البشير بانقلاب آخر عبر الاستيلاء على حزب المؤتمر الوطني وإقصاء الأغلبية ممثلة بالترابي ورفاقه، رغم أن الجنرال ورفاقه العسكر وبعض السياسيين الانتهازيين كانوا أقلية في مؤسّساته القيادية المنتخبة.

إذن، تولّى حميدتي قيادة “الدعم السريع” بقرار من نظام أحادي استبدادي، وحتى قبل ذلك أي شرعنتها وإسباغ الطابع الرسمي عليها، ومتذرّعاً بنجاحه في دحر المقاتلين من دون هزيمتهم نهائياً، تحكّم بمقدرات الإقليم الهائلة الحيوانية والمعدنية (الذهب خصوصا)، ليتحول من مسؤول قبلي محلي إلى زعيم مليشيا منفلت غير خاضع للقانون، وطامح للعب دور سياسي أكبر على مستوى السودان ككل.

مع اندلاع الثورة ضد نظام البشير (2019) ولو متأخّراً عن سيرورة الثورات العربية، خصوصا إثر تعثرها في مصر، علماً أن نجاحها هناك كان سيغيّر وجه المنطقة، بما في ذلك ضمان الانتقال الديمقراطي السلس والهادئ في الجار الجنوبي والتوأم التاريخي. آنذاك انحاز الجيش إلى الشعب، بقيادة رئيس الأركان الجنرال عوض بن عوف، الذي مثل النسخة السودانية الأقرب إلى الخالد الفريق عبد الرحمن سوار الذهب رحمه الله مع تعيينه رئيساً للمجلس الانتقالي، وحميدتي نائباً له، بعدما بادر تكتيكياً إلى تأييد الثورة وحماية الثوار في الميادين والساحات العامة. وبن عوف شخص نزيه ومهني وغير متورّط في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وكان ليؤدي أمانة الانتقال الديمقراطي على أكمل وجه، وهو ما فهمه الخبيث والمتلاعب “مجرم الحرب” حميدتي منذ اللحظة الأولى. ولذلك، لجأ إلى التذاكي والتحايل برفضه أن يكون نائباً لبن عوف في المجلس الانتقالي باعتباره منتمياً للنظام السابق، فماذا يكون هو نفسه مع الانتباه إلى أكاذيبه عن حماية الثورة والثوار، ودعم الانتقال إلى الديمقراطية واحترام إرادة الناس والصادرة عن مسؤول مليشيا قبلي غير متعلّم وأحد أثرياء الحرب، ومتّهم بتطهير عرقي وارتكاب جرائم حرب في دارفور.

من هنا، خطت الفترة الانتقالية بالقدم اليسرى بعد إزاحة البشير واستقالة بن عوف وتعيين الجنرال عبد الفتاح البرهان بدلاً منه، ثم تواصل الأمر مع تشكيل حكومة اللون الواحد برئاسة التكنوقراط عبد الله حمدوك القريب من قوى الحرية والتغيير اليسارية، والذي لا يشبه أبداً توأم سوار الذهب في الانتقال الديمقراطي بعد إسقاط نظام نميري 1985، نقيب الأطباء الجازولي دفع الله، والتي ضمت وزراء من “الحرية والتغيير” غير المنتخبين وغير الكفوئين والمفتقدين الخبرة اللازمة لإدارة البلاد، وعديد منهم بجنسيات مزدوجة، بادروا إلى تنفيذ أجندتهم الأيديولوجية الخاصة من دون أي تفويض ديمقراطي أو شرعية انتخابية من الشعب السوداني.

كان الأصحّ اتخاذ الخطوة المنطقية والواقعية والناجعة بتشكيل حكومة تكنوقراط من مستقلين لقيادة مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومن دون الحسم في القضايا المصيرية الكبرى، بما فيها التطبيع مع إسرائيل قبل الانتخابات وأخذ الشرعية الديمقراطية من الشعب السوداني، ما مثل سببا رئيسيا للتعثر، بما في ذلك الوصول المؤسف إلى الاقتتال الجاري.

إذن، تمثّل عوار الحكومة الانتقالية بقيادة حمدوك و”الحرية والتغيير” الصارخ في أنهم لا يملكون الشرعية للحكم أو الفصل في القضايا الكبرى ولا إقصاء الإسلاميين ككل، واجتثاث الخصوم من دون انتخابات، ناهيك عن السجال والحرب العلنية ضد المؤسّسة العسكرية والإسلاميين بفرية أن الجيش هو لهم أيضاً، من دون تمييز بينهم، رغم أن تيارا عريضا منهم كان في المعارضة وضحية لحكم البشير في منحاه الاستبدادي، خصوصا في سنواته الأخيرة.

في السياق، يحسُن الانتباه إلى خلفيات قوى الحرية والتغيير، البعثية واليسارية، ومراجعة آرائهم مثلاً من نظام بشار الأسد أو حتى من ثورات الربيع العربي باعتبارها مؤامرة مزعومة، كما يرى اليسار في العالم العربي، مع استثناءاتٍ تثبت القاعدة ولا تنفيها. وفي العموم، كان من المستحيل إبعاد الجيش والمؤسّسة العسكرية عن المشهد وفق مقولة المرحوم الصادق المهدي، كونهم أصبحوا شركاء بمجرّد انحيازهم إلى الثورة.

رغم ذلك كله، لم تخل الفترة الانتقالية، على علاتها، من إيجابياتٍ بشراكة الحد الأدنى بين الجيش والمدنيين واتفاق جوبا للسلام مع قوى وحركات مسلحة ومحاكمة البشير ورموز نظامه، وحل حزب المؤتمر الوطني، والتوافق على إبعاده من الحياة السياسية، لمسؤوليته المركزية عما يعانيه السودان حالياً. ولكن مع جمود الوضع، يظل عجز حكومة حمدوك – “الحرية والتغيير” عن حل مشكلات البلاد، خصوصا الاقتصادية والاجتماعية منها، طرحت مطالب محقّة بتشكيل حكومة تكنوقراط من شخصياتٍ وطنية مستقلة. والسعي إلى بلورة توافق وطني الواسع، من أجل الذهاب إلى الانتخابات بمشاركة كل القوى، عدا “المؤتمر الوطني” كنقطة إجماع وقاسم مشترك، مع حق أعضائه غير المتورّطين بقضايا جنائية تشكيل حزب وإطار جديد والقبول بحسم المرجعية العليا المتمثلة بالشعب السوداني.

إلى ذلك، ولفهم ما يجري حالياً لا بد أيضاً من استحضار المحطّة الأخرى الفاصلة، 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 حيث لم يُحسن حمدوك التصرّف، وكان عليه التقدّم باستقالة الحكومة الحزبية المؤدلجة والمستلبة لأجندة ضيقة وفئوية والمبادرة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط مدعومة وطنياً ومواكبة حوار واسع مع الإسلاميين وبقية القوى والحركات حول الدستور، والبرلمان المؤقت والمحكمة الدستورية وتمديد الفترة الانتقالية وما إلى ذلك، بعد تقادم خريطة الطريق الأولى للحفاظ على عربة الثورة على السكّة الصحيحة، وقطع الطريق على قرارات الجنرال البرهان “بدعم حميدتي” بإقالة الحكومة وحل المجلس الانتقالي وإقصاء المعارضين منه، والتي أعادت الأمور إلى لحظة إزاحة البشير، والتفريط، بالتالي بكل الإنجازات التي تحقّقت، على تواضعها.

خسر السودانيون عاما ونصف عام تقريباً إلى أن جرى استئناف الحوار بين الجيش والمدنيين والتوصل إلى اتفاق إطاري معقول جداً، في ديسمبر/ كانون الأول 2022، يتحدث عن معظم المعطيات والنقاط الواردة أعلاه ضمن فترة انتقالية جديدة عامين مع تعزيز بند دمج قوات الدعم السريع، ضمن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، بموازاة حوار وطني بشأن البرلمان المؤقت والدستور واستكمال إجراءات المرحلة الانتقالية ومتطلباتها. ومثّل الاتفاق خطوة مهمة ونوعية، مع التفاهم على فترة انتقالية جديدة ضمن مدى زمني معقول لتأسيس دولة مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها وانطلاق ورش عمل بشأن التفاصيل والجداول الزمنية اللازمة وملاحظات منطقية من المؤسّسة العسكرية أيضاً لجهة دمج “الدعم السريع” ضمن مهلة السنتين، لا عشر سنوات كما يطالب حميدتي، وضرورة توسيع دائرة التوافق الوطني والسعي إلى استقطاب قوى أخرى إلى الاتفاق الذي يضم فقط المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والمؤتمر الشعبي، مع تحفظ قوى أساسية وعديدة عليه، خصوصا من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر/ تشرين الأول 2020) حتى مع اعتباره أساسا جيدا للانطلاق.

هنا، تفجرت الخلافات بين البرهان وحميدتي وتأججت أكثر مع دخول المجلس المركزي للحرية والتغيير والإمارات على الخط، ومراهنة هذه الأخيرة على حميدتي باعتباره النسخة السودانية من خليفة حفتر وبشار الأسد وقيس سعيّد، مع استحالة أن يكون النسخة المحلية من عبد الفتاح السيسي لاعتبارات عديدة، منها أن مصلحة الأمن القومي لمصر، وحتى النظام المصري، الفئوية والضيقة، هي مع الجيش والمؤسّسة العسكرية، لا مع مليشيا الدعم السريع.

ولا بد من الانتباه إلى أن حميدتي هو من أطلق الرصاصة الأولى في مدينة مروي شمالاً، كما في الخرطوم، وتحديداً في محيطي القيادة العامة للقوات المسلحة والقصر الجمهوري. وبدا المخطط واضحاً، لجهة السيطرة على مطار مروي لاستقبال الدعم الخارجي وتحييد القوة الجوية للجيش، والتمكّن من المؤسسات والرموز السيادية (القصر الجمهوري والقيادة العامة). وقد فشل المخطّط المليشياوي المدعوم خارجياً حتى اللحظة. ولكن إذا لم تُحسم الأمور خلال أيام وأسابيع قليلة نكون أمام سيناريو اقتتال داخلي لا ينتهي، قد يفتت الدولة كلها أو بالحد الأدنى يؤدّي إلى حرب أهلية، كما جرى زمن نظام البشير مع الجنوب، ولكن في اتجاه دارفور مع ملاحظة أن حميدتي ليس جون قرنق المثقف والوطني، ولن يكون أم الصبي، ولن يمانع التقسيم والانفصال كي يبقى في السلطة.

في الأخير، وباختصار وتركيز، ومن أجل وحدة السودان وسيادته واستقلاله، وحتى ضمان الانتقال الديمقراطي، لا بد من الحسم والانتصار وكسر حميدتي ومليشياته، ومن ثم العودة إلى طاولة الحوار على أساس الاتفاق الإطاري، بأوسع تفاهم وطني ممكن لاستكمال المرحلة الانتقالية، والذهاب إلى انتخابات حرّة ونزيهة لتأسيس جمهورية مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها، وليس فقط لأجل أمن البلد واستقراره وسلامته، وإنما أيضا الدول الأفريقية السبع المجاورة له، وحتى المنطقة كلها.

مقالات ذات صلة