ما يقوله المشهد الانتخابي في تركيا

ماجد عزام

حرير- بات المشهد الانتخابي في تركيا أكثر وضوحاً مع اقتراب الاستحقاق الحاسم. كانت معالمه قد ارتسمت شيئاً فشيئاً خلال العام المنصرم، حتى اكتمل أو كاد مع الاحتفال والمهرجان الانتخابي المهيب والمليوني للرئيس رجب طيب أردوغان وتحالف الجمهور الداعم له في مطار أتاتورك في 7 مايو/ أيار الحالي.

بدأ العام الانتخابي عملياً، أقله بالنسبة للرئيس والتحالف الداعم له منذ مارس/ آذار 2022 بالتزامن بين حدثين مهمين؛ التعافي والخروج من طوارئ جائحة كورونا وقيودها، والغزو الروسي لأوكرانيا، الذي انعكس إيجاباً أيضاً على تركيا سياسياً واقتصادياً مع تعزيز صورة الرئيس أردوغان زعيما عالميا لا يمكن تجاوزه أو تجاهل حضوره القوي في حلّ الأزمات الإقليمية والدولية. وقد انعكس التعافي من جائحة كورونا وقيودها إيجاباً على العجلة الاقتصادية التي عادت إلى الدوران تحديداً في ثلاثة قطاعات مهمة ومركزية للاقتصاد الراسخ والمتين، وهي الإنتاج والاستهلاك الداخلي والتصدير والسياحة التي حقّقت نسبا غير مسبوقة، مع وصول عدد السياح إلى عتبة 50 مليونا، وعوائد قاربت حدود الـ40 مليار دولار. كما شهدت الصادرات طفرة واضحة، خصوصا مع التهدئة السياسية في المنطقة، وفتح أسواق جديدة أمامها، ما أدّى إلى تجاوزها حدود الـ270 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق أيضاً.

إضافة إلى ما سبق، قام الرئيس أردوغان بسلسلة خطوات لمواجهة تداعيات تراجع العملة المحلية، وارتفاع نسبة التضخم عبر دوران العجلة الاقتصادية مع رفع الحد الأدنى للأجور مرّتين خلال العام الماضي، وتقديم امتيازات مالية طاولت قطاعات اقتصادية أساسية – الإسكان، التعليم، والمشاريع الصغيرة – وخدمت فئات اجتماعية عديدة تحديداً محدودي الدخل والأزواج الشابة والطبقة المتوسّطة. ورغم الصدمة والتداعيات السلبية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، تحديداً فيما يتعلق بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، حيث تدخّل أردوغان لتخفيف آثارها محلياً وقارّياً وعالمياً، عبر إبقاء القنوات مفتوحةً مع الطرفين مع اتخاذ موقف أخلاقي وسياسي متوازن بينهما، ما أدّى إلى تسهيل مغادرة السفن التركية العالقة في الموانئ الأوكرانية، محمّلة بالزيوت والحبوب، ثم القيام بوساطة وجهود كبيرة من أجل التوصل إلى اتفاق تصدير الحبوب الأممي بامتياز، والذي أنقذ العالم من مجاعة، كما يقول دائماً الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس. واستمرّت وتيرة عمل أردوغان في النصف الأول من العام الجاري مع رفع الحد الأدنى للأجور مرّة أخرى، ثم الشروع في استخراج الغاز الطبيعي من البحر الأسود لأغراض تجارية وتوصيله مجاناً إلى المنازل مدة شهر مع كمية مجانية إضافية 25 مترا مكعبا شهرياً” لمدة سنة، وامتيازات مماثلة للمصانع والمصالح التجارية لتخفيض كلفة الإنتاج، وبالتالي، إتاحة الفرصة أمام مزيد من الصادرات بأسعار تنافسية.

ثم جاء الحديث عن بدء الجانب العملي من استخراج الاكتشافات النفطية “في الجنوب”، ما يساهم أيضاً في تخفيض فاتورة الطاقة الباهظة، 50 مليارا سنوياً، وينعكس إيجاباً على الواقع المشهد بشكل عام.

في السياق، جرى طرح سيارة محلية الصنع في السوق، وهي خطوةٌ لاقت صدى كبيرا داخلياً وخارجياً إلى درجة أن وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو، اقتنى واحدة منها في أثناء زيارته أخيرا النمسا مطلع أبريل/ نيسان الماضي، مع إطلاق الإجراءات اللازمة لطرحها أمام المغتربين في أوروبا.

حضرت الصناعات العسكرية كذلك في المشهد الانتخابي مع تدشين حاملة الطائرات المصنّعة محلياً، والطائرة النفاثة من الجيل الخامس، والطائرة المسيّرة المقاتلة. وعلى عكس ما يبدو للناس، فقد باتت هذه الصناعات عاملا مهما، ليس فقط اقتصادياً مع الإقبال الإقليمي والدولي عليها، وارتفاع عائدات تصديرها إلى الخارج، وإنما في تشكيل مزاج الناس وشعورهم القومي. وفي أثناء تجمّع انتخابي معارض لعلي باباجان الذي استفاض في الحديث عن مشكلات البلاد الاقتصادية أجابه أحد الحاضرين، ولكننا نمتلك بيرقدار أيضاً، في إشارة إلى المسيّرة التركية ذائعة الصيت محلياً ودولياً.

كان بإمكان فاجعة زلزال فبراير الماضي بعثرة أوراق الرئيس والتحالف الحاكم بشكل عام، ورغم تباطؤ الساعات الأولى بعد الصدمة (48 ساعة)، إلا أن الآلة الحكومية نهضت بكامل قوتها في عمليات الإنقاذ والإيواء، ثم التعافي، وجرى فعلاً تسليم أول دفعة من المنازل للمتضرّرين، خصوصا في المناطق الريفية في زمن قياسي (ثلاثة أشهر). وكان هذا كله معطوفاً على الأداء السيئ للمعارضة، وعجزها عن تبنّي خطاب لمواساة الضحايا، وتقديم مقاربة شاملة متكاملة حول الفاجعة وكيفية معالجة آثارها وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.

انتخابياً، وفي البعدين، التنظيمي والمؤسّساتي، كان تحالف حزب العدالة والتنمية وتحالف الحركة القومية أكثر استقراراً مع التوافق المبكر على الرئيس أردوغان مرشّحا له وللتحالف الذي بدأ حملته منذ شهور طويلة. ثم كانت الخطوة الناجحة بضم حزبي الرفاه والهدى الإسلاميين (3% – 4% تقريباً من أصوات الناخبين) للتحالف الحاكم (الجمهور)، ما أدّى إلى إفراغ حضور الإسلاميين في التحالف المعارض (الأمة) من محتواه، خصوصا مع تنافس حزب الرفاه (أربكان الابن) منفرداً، وبشعاره الخاص في الانتخابات البرلمانية، عكْس إسلاميي المعارضة الذين تنافسوا ضمن قوائم حزب الشعب، العلماني اليساري التي باتت حزب العدالة “أكس” السابق كما يقول أعضاؤه تندّراً.

بناء علي ما سبق كله، باتت استطلاعات العامين السابقين السوداوية للرئيس وتحالف الجمهور من الماضي فعلاً مع عودة أردوغان والتحالف إلى صدارة المشهد رئاسياً وبرلمانياً. وفي المقابل، عانت المعارضة من التخبّط والعشوائية، وعجزت عن الاستفادة من الأزمة الاقتصادية (خلال عامي كورونا)، وانخفاض سعر العملة وارتفاع نسبة التضخّم والأسعار، وهي الفترة التي كان فيها الرأي العام خانقاً وغاضباً.

وعلى الرغم من النجاح في تشكيل الطاولة السداسية من أطياف مختلفة، يمين ويسار ويمين ووسط، إلا أنها عجزت عن التوافق على مرشّح رئاسي حتى الأسابيع الأخيرة من الماراثون الاتتخابي. وعندما فعلت ذلك باختيار زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، مرشّحاً لها، اندلعت أزمة كبرى، ووصلت الطاولة نفسها إلى حافّة التشظّي والانكسار، إثر انسحاب عرّابتها وقلبها النابض زعيمة حزب الجيد القومي، ميرال أكشينار، ثم عودتها مضطرّة بعد حملة إعلامية شديدة ومكثفة ضدّها بتهمة تشتيت المعارضة، لكن مع بقاء رأيها حول ترشيح كلجدار أوغلو في الذاكرة باعتباره غير جديرٍ ومفتقدا القدرات والكاريزما اللازمة لتحدّي الرئيس أردوغان وهزيمته.

إلى ذلك، نجحت المعارضة في جذب حزب الشعوب الكردي (10% تقريباً) إلى جانبها، لكن مع فقدان المنشقّ عن حزب الشعب المرشّح الرئاسي السابق محرم إنجه الذي ترشّح عن حزبه الجديد (وطن)، ويراوح، وهو وحزبه حول 3% إلى 5% تأتي غالباً من الناقمين في صفوف أحزاب المعارضة.

إضافة إلى المعطيات السابقة مجتمعة، أو ربما نتيجة ومحصلة لها، كان الأسبوع الماضي محطّة فارقة في المشهد الانتخابي مع المهرجانات الحاشدة للرئيس والتحالف المؤيد له أولاً في معقل المعارضة المركزي في مدينة إزمير، ثم التاريخي وغير المسبوق في تاريخ إسطنبول والبلاد في مطار أتاتورك، بحضور مليوني مشارك تقريباً، مقابل مهرجان متواضع للمعارضة في المدينة جمعت فيه ربع هذا الرقم تقريباً.

تطورت الاستطلاعات تدريجياً لترسم المشهد الانتخابي شبه النهائي، وبعد الاطّلاع على أحدث النتائج المنشورة لمراكز مستقلة وأخرى مؤيدة ومعارضة، يمكن الحديث عن نسبة 48% للرئيس أردوغان مقابل 45% لكلجدار أوغلو، و5% إلى 6% لباقي المرشّحين، بينما أشار استطلاع أخير لم تنشر نتائجه رسمياً حسب القانون إلى دخول مرحلة الصمت الاستطلاعي، كما كتبت صحيفة حرييت، الثلاثاء 9 مايو/ أيار، إلى تجاوز الرئيس أردوغان حاجز الـ50% ومنذ الدورة الأولى للانتخابات. وبرلمانياً، تشير الصورة إلى نسبة 45% إلى 47% للتحالف الحاكم و42% إلى 44% للمعارضة مجتمعة، لكن ذلك كله من دون أخذ تصويت المغتربين بالاعتبار، حيث لا تشملهم الاستطلاعات المحلية، علماً أنهم يمثلون 5.3% من مجموع الناخبين. وحسب نتائج الانتخابات السابقة (2018)، صوّت 60% منهم لصالح الرئيس أردوغان و50% تقريباً لحزب العدالة. ومع الأخذ بالاعتبار منطلقات تصويتهم، حيث يحضر العامل القومي ونهوض البلاد عُمرانياً ومكانتها الدولية، وكونهم غير متأثّرين مباشرة بالوضع الاقتصادي (العملة والتضخّم). ومع الاقتراع الكثيف في صفوفهم هذه المرّة يمكن توقع نتيجة مشابهة أيضاً بالاستحقاق القادم.

في الأخير وباختصار، يبدو الرئيس أردوغان في طريقه نحو الفوز مع احتمال جدّي لتحقيق ذلك من الدورة الأولى، ومع توقع أن تعجز أحزاب صغيرة كثيرة عن تجاوز نسبة الحسم اللازمة للعبور (7%)، ما يعني توزيع بقية المقاعد البرلمانية على الأحزاب والتحالفات الفائزة فستكون النتائج النهائية كما ذكر أعلاه، أي أغلبية طفيفة لصالح حزب العدالة وتحالف الجمهور الحاكم.

مقالات ذات صلة