يا خسارة التربية… حسين رواشدة
يا خسارة التربية،.. قالها الرجل بعد حوار هادىء مع ابنه الذي يدرس في الجامعة حول مواقفه وآرائه في الانتخابات الطلابية الاخيرة..
كان الرجل يتصور ان عشرين عاما من ضخ الافكار والمبادىء عن معنى الوطن الواحد وقيم الوحدة ونبذ التقسيمات الجغرافية واشاعة ثقافة المشتركات الوطنية العليا ومعنى ان يكون الاردني مفهوما عابرا للولاءات الضيقة ونقيضا لدعوات شيطنة الاخر مهما اختلف معه في الرأي والاجتهاد والاتجاه السياسي.. كان يتصور انها فعلت افاعيلها في الشاب المثقف ، وان مجتمع الجامعة سيصقلها بما يلزم من الخبرات والوعي والمعايشة والتجربة، لكن ما حدث كان شيئا اخر مختلفا تماما.
الانتخابات في الجامعة – كما يراها الشاب – موسم للفرز بأنواعه وجهاته، وهو مضطر لاختيار الجغرافيا التي سيدلي على اساسها بصوته، ثمة قائمة للتيار واخرى باسم وطن وثالثة لمستقلين مستعدين لمقايضة اصواتهم، اصواتهم التي تفوح منها رائحة التفتيت ويحاكم بعضها بعضا على اساس المنابت، ويتصارع الكبار فيها من اجل الانتصار للعشيرة.. او البلدة والقرية، لغة الشعارات تمجد المحافظات، والتحالفات تبدو مغشوشة بامتياز، ومع ذلك يختار الشاب ان ينحاز الى لغة المحاصصة ويريد ان يبحث عن حصته في مولد يشعر ان ثمة اخرين يحاولون ان ينتزعوه منه.
لا يُخفي انه يصلي في المسجد، ويعرف الكثيرين من مرشحي التيار لكنه يخاف منهم، يشعر انهم يذهبون بعيدا في انحيازاتهم.. تضطره وطنيته – كما يتصورها – ان ينحاز ضد السياسة مع التربة والجغرافيا في حدودها الضيقة، يفهم الشاب في السياسة، ويتقن تفكيك شيفرة الرسائل الغامضة التي تصدر من كل اتجاه، ولكنه يبدو حائرا امام الاجابة عن سؤال: من هو؟ وماذا يريد؟ تزعجه التباسات الهوية وما يدور حولها من اشتباكات، يتمنى ان يكون – مثل الاخرين – قد تجاوز مشكلة الحديث بلغتين، وان يتمدد وعيه وسلوكه على بساط المواطنة غير القابلة للمحاصصة، لكنه يعترف بان خياراته امام صناديق الانتخاب في الجامعة كانت محسومة لصالح واقع لم يستطع ان يواجهه، وغرائز لم يتمكن من مقاومتها، ومشهد غامض – كالطوفان – اخذه من يده، وانتزع منه كل ما ترسخ بداخله من مبادئ، وألقاه في صندوق ميدوزا العجيب.
كيف ينتهي ابناؤنا الى هذه المآلات والخيارات البائسة، ومن اي تربة خرجت الينا هذه التقسيمات والانحيازات المخجلة، لماذا عجزنا عن تبديد مخاوفهم وقلع هذه الاشواك المرة من اذهانهم، هل هي مسؤولية الثقافة التي انعزلت داخل الجدران ام السياسة التي رمت عيدان ثقابها في الهشيم لتشعله وتشغل الناس باطفائه.
كان حوارا هادئا، لكنه يخفي صخب المخاضات التي شعر بها الرجل وهو يستمع للشاب، لم يخطر في باله ان يسأله عن نزاهة الانتخابات ولا عن الفائزين بها، وعما اذا كانت البروفة تصلح للتعميم على المستقبل، كان مشغولا بما يمكن ان يفعله في السنوات القادمة لتحرير هؤلاء الشباب الضحايا – وما اكثرهم – من عموم البلوى (!)التي نمّطت مواقفهم وافكارهم وانتهت بهم الى هذه الخيبات المفزعة.
.يا خسارة التربية… ويا خسارة الجامعة ايضا