متى يستعيد المسلمون بوصلتهم الحضارية؟

أحمد القديري

حرير- عاد الجدل عن الإسلام هذه الأيام بقوة بمناسبات عديدة منها تهديد الصرب بالعودة الى اضطهاد مسلمي كوسوفو ومنها حادثة طعن أطفال فرنسيين من قبل مهووس مسيحي متطرف حمدنا الله أنه ليس مسلما ولم يصرخ (الله أكبر) وهو يرتكب هذه الفظاعة بل صرخ (فداك يا يسوع) وكذلك بمناسبات الحديث عن التطبيع وصدور كتب غربية عديدة حول ظاهرة الاسلام بين كونه سياسة وكونه حضارة.

ومنذ تأسيس جمعية الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 ودور الإخوان الحاسم في نصرة الضباط الأحرار أثناء التنسيق بين المرشد العام الهضيبي وجمال عبد الناصر في منزل كمال شادي. ثم انتصار الثورة الخمينية في إيران سنة 1979 كثر الحديث عن الفرق بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي ثم تعاقبت أحداث الجزائر وإجهاض انتخاباتها الحرة عام 1991 بأيدي الجيش الجزائري والمخابرات الاستعمارية وبعدها فوز الإخوان في مصر وأخطاؤهم والانقلاب عليهم مع ما رافق كل هذه الأحداث العربية من صراعات أيديولوجية مفتوحة بين النزعات العلمانية والتوجهات الإسلامية الى أن تعطل الحوار الرصين في أغلب المجتمعات العربية والمسلمة تاركا مكانه للعنف الأهلي بين تيارات دينية مثل طالبان أو ميليشيات إرهابية عنيفة مثل القاعدة وداعش والأنظمة القمعية التي واجهتها بنفس أسلحة العنف الى درجة إنشاء تحالف دولي لمقاومة هذه الحركات الإرهابية تقوده الولايات المتحدة ونجحت قوات التحالف في القضاء وقتيا على داعش وحررت الموصل التي احتلتها داعش من يناير 2014 الى يونيو 2017 ثم اغتالت “خليفتهم” أبا بكر البغدادي وهنا يتساءل أهل الفكر من بين حكماء العرب عن دور هذا الدين الحنيف السمح في توجيه المجتمعات المسلمة وتحقيق تقدمها وصيانة مكاسبها وتجسيد طموحاتها في العزة والكرامة والمجد، وعن التعايش المصيري والضروري بين قيم العقيدة ومستحقات السياسة، هذا التعايش الذي يبدو للرأي العام صعبا وحمال إشكاليات إذا ما اكتفينا بسماع أصوات بعض الشيوخ الذين يقرؤون ظاهر النصوص الحرفية ويوصدون أبواب الاجتهاد ويلغون نعمة العقل، فيقدمون للعالم هذا الإسلام الحنيف كأنه إسلام عنف والغاء العقل مثلما وقع في (باميان) الأفغانية من تفجير التماثيل البوذية الأثرية أو اقامة الحدود في صيغتها النصية القابلة في الحقيقة للتفسير والتأويل والتحديث أو إسلام قهر المرأة بينما هو الدين الذي رفع المرأة إلى منزلة الشريك الكامل للرجل وأسند لها الحق في المال المستقل والعمل الكامل والقيادة السياسية والإبداع الثقافي والتأثير التربوي. جاءت هذه الأحداث على خلفية الاحتقان الحضاري الذي يعيشه العالم الإسلامي أمام تفاقم المأساة الفلسطينية التي أراد ترامب منذ انتخابه عام 2016 تصفية حقوق شعبها بما سماه (صفقة القرن) والى اليوم عام 2023 في عهد بايدن ما زال اليمين الإسرائيلي المتطرف يهدد بالحرب الشاملة التي ينذر بها ضد إيران ومنعها من تصدير نفطها ومطالبتها بتخفيض تخصيب اليورانيوم والتخلي عن صناعة الصواريخ البالستية بل وفرض نظرية جديدة وهي أن تكون إيران بالنسبة للعرب هي العدو عوض المحتل الإسرائيلي!

هذه هي ملامح المشهد العربي المسلم خلال هذه الأزمات الكبرى (حرب أوكرانيا والتهديد بحرب كوسوفو وتفاقم الحرب الأهلية السودانية) إنها حالة دوار حضاري تصيب الأمة فتكاد تفقد توازنها في عالم هو ذاته فاقد التوازن أو قل بالأحرى حالة عجز عن الفعل والاكتفاء برد الفعل في مناخ من سوء التفاهم العميق ما بين الأمة الإسلامية وشرائح عريضة من الرأي العام العالمي. وأعتقد أننا مطالبون اليوم في هذا المنعرج التاريخي بأن نعلن الفرق الذي نراه كبيرا بين الإسلام الحضاري والإسلام السياسي لأن الحضارة أشمل وأوسع وأعمق من السياسة التي هي حسب تعريف فقهائنا سياسة الدنيا وحراسة الدين. هاتان الرسالتان لا تستقيمان إذا ما أخطأنا تقييم شؤون الدنيا وإذا ما أخطأنا تصنيف أصول الدين، فتصبح السياسة اختزالا لتعاليم الدين في قراءة جهولة للشريعة تنسى بأن العصر تغير والأجيال تعاقبت والقيم تعولمت وكفة ميزان القوى رجحت لغير المسلمين إلى حين، وأن المعركة الحقيقية هي معركة اكتساب القوة بكل أبعادها الاقتصادية والدفاعية والثقافية.

فأمة الإسلام مطالبة بالمنعة والتمكن والاستقلال الفعلي أي بدخول معترك الإنتاج وإلا ظللنا عالة على الأمم الأخرى فيما نأكل ونلبس ونركب ونعالج، وبالطبع عالة في أمور أمننا وحماية حياتنا وصيانة أرواحنا، حتى لو ارتفعت أصواتنا بالصراخ بغير ذلك. إنني أعتقد بأن الأخطاء التي أضرت بنا منذ نكبة فلسطين وهزيمة 67 إلى الحروب الأهلية والطائفية هي أخطاء النخب العربية حين استقلت شعوبنا عن الإمبراطوريات الاستعمارية نصف استقلال لأنها ظلت تعاني التبعية الاقتصادية والثقافية واللغوية والسلوكية لمستعمرها القديم وتذيلت حتى ذابت في منظومة الاستعمار ونتج عن هذا الانغيار (أي الذوبان في الغير) ظهور أعراض مركبات نقص ومذلة أمام الغرب حين قلدنا الغالب في شتى أمور حياتنا شأن المغلوب كما قال العلامة ابن خلدون، وفقدنا ذلك العنفوان المشروع وتلك الكبرياء الضرورية وهي الرصيد الذي كان يحرص عليه الرواد المصلحون حين يخاطبون الغرب مخاطبة الند للند أمثال رشيد رضا والطهطاوي والوزير خير الدين باشا واحمد بن أبي الضياف وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وعبد العزيز الثعالبي ومالك بن نبي. كان هؤلاء الأعلام ينطلقون من عظمة الإسلام ليحاوروا الغرب ويصلحوا حال شعوبهم لا من منطلق الغلبة والمذلة والإذعان والهزيمة، بل من منطلق العزة والثقة والأصالة والندية والسر في قوة مواقفهم هو أنهم إسلاميون حضاريون لا إسلاميون سياسيون، حاولوا فهم العالم والعلاقات الدولية واستراتيجيات النهضة بانخراطهم الذكي فيها واغتنام ثغرات النظام العالمي في ذلك العصر ولم يسقطوا في متاهات التفسير الحرفي والغيبي للنص القرآني فكانت للمصلحين الرواد مواقف ريادية منها الرسالة التي بعث بها المصلح اللواء حسين عمدة مدينة تونس في الربع الثالث من القرن التاسع عشر إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ينصحه فيها بعتق العبيد ويردد على مسامعه كيف كرم الإسلام بني آدم وجعلهم خلفاء في الأرض. التاريخ كتبه رجال عرفوا كيف يتحولون من الثورة إلى الدولة وهو تحول من الإسلام السياسي إلى الإسلام الحضاري. وهو التحول المبارك الذي أنجزه رجب طيب أردوغان في تركيا والمرحوم علي عزت بيجوفيتش في البوسنة والهرسك ومهاتير محمد في ماليزيا بل وثبت أن القيادة القطرية عززت التعايش بين الإسلام والحريات مع الاعتزاز بالهوية قبل وأثناء وبعد مونديال قطر بينما مع الأسف عجز أغلب العرب عن تحقيقه الى حين.

مقالات ذات صلة