مونديال الوحدة العربية في قطر

حرير- جاء مونديال قطر 2022 حافلاً بالدلالات السياسية والرياضية، لجهة إفشال قطر الحملة العنصرية الممنهجة والممولة ضد استضافتها المونديال، ثم الأجواء الرائعة التي صاحبته والمهرجانات والكرنفالات متعدّدة المستويات، والأبعاد التراثية الثقافية والفكرية والاجتماعية في رحابه نحو شهر.

رياضياً، تمثل الحدث الأهم بتأهل منتخب المغرب إلى نصف نهائي المونديال، ليصبح أول منتخب عربي وأفريقي يحقق هذا الإنجاز. الحدث الذي بات سياسياً أو اكتسى إطاراً سياسياً بامتياز، مع الاحتفال بالعلم الفلسطيني، والالتفاف الشعبي والجماهيري الواسع حول المنتخب المغربي، باعتباره ممثلاً للعرب جميعاً، مكرّساً حقيقة أن الوحدة العربية لم تنته كما يقول دعاة القُطرية والمحلية، وتجاهل فلسطين قضية العرب الأولى والهرولة باتجاه التطبيع مع إسرائيل، كما لا تحتاج أي الوحدة العربية إلى أنظمة القهر والاستبداد لتكريسها، وإنما فقط إشاعة أجواء الحرية والديمقراطية أمام الجماهير، والشعوب للتعبير عن إرادتها ومزاجها العام، وعقلها الجمعي بعيداً عن ذهنية لا صوت يعلو فوق صوت المعركة سيئة الصيت، بمعنى تبرير كل السياسات الداخلية الخاطئة بالسعي إلى الوحدة العربية وتحرير فلسطين، علماً أن هذا لا يمكن أن يتحقق من دون قاعدة داخلية صلبة ومتماسكة.

إذن، كان حضور الوحدة العربية ربما الاستنتاج الأهم والأبرز سياسياً مع صعوبة تجاهل التجليات والتعبيرات الواضحة له، والتي لا تخطئها العين. لقد بدأ الأمر عبر التصدّي العربي الواسع، خصوصا في بعده الشعبي للحملة العنصرية ضد استضافة قطر المونديال، والتشكيك في أحداثه ومجرياته، وتضخيم سلبيات ضئيلة على حساب الإيجابيات، رغم أن هذه الإيجابيات هي الغالبية العظمى في المشهد برمته. وفي السياق، جرى التعاطي مع مونديال قطر باعتباره مونديال العرب، عبر الالتفاف الجماهيري الكبير من المحيط إلى الخليج حول قطر ومساعدتها في إنجاح الحدث، بوصفه نجاحا لجميع العرب. ومن هنا تعزّزت حقيقة أن الوحدة العربية ليست مجرّد شعار إنشائي من الماضي تجاوزه الزمن وبات خارج العصر ولا وزن ولا قيمة له.

تبدّت الحقيقة كذلك في قضية فلسطين، التي كانت تاريخياً تعبيراً أساسياً عن الوحدة العربية، مع الانتباه إلى جذور الفكرة القومية الديمقراطية والمتسامحة والمنفتحة على الإسلام والجوار، وغير المنغلقة أو الشوفينية، والتي تطوّرت مع تأسيس جامعة الدول العربية منتصف أربعينيات القرن الماضي، بناء على تلك الأسس إضافة إلى الدفاع عن فلسطين، مع اشتداد الهجمة الاستعمارية الصهيونية ضدّها، قبل أن يختطف الانقلابيون العسكر الفكرة، ويعجزوا عن تحقيق الوحدة العربية أو حتى الوحدة فيما يبنهم، رغم تمكّنهم من السلطة في دول وحواضر عربية مركزية كبرى. هنا يمكن تذكّر مثال حزب البعث الذي عجز عن إقامة الوحدة حتى بين سورية والعراق.

رأينا تجليات القومية واضحة في المونديال، مع التمسّك بفلسطين قضية مركزية، وأن ثمّة ما يجمع العرب ويلتفون حوله. وارتباطاً بما سبق، شهدنا رفض التطبيع مع إسرائيل، أو الاعتراف بها بأي شكل، أو بوجودها بحد ذاته، فقد كان اسمها فلسطين، ولا يزال تحديداً من الجيل الشاب الذي ترعرع وهو يسمع الأنظمة العربية (تبنّت جامعة الدول العربية ذلك رسمياً) بهيمنتها التامة على وسائل الإعلام، تتحدّث عن السلام خيارا استراتيجيا للعرب مع إسرائيل، التي ردت على قرار الجامعة في حينه 2002 باجتياح رام الله وحصار ياسر عرفات ومقاطعته ثم اغتياله. ولم تتوقف، طوال السنوات الماضية، عن ارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، حيث يبدو حصار غزّة الممتد مجرّد مثال على ذلك، بينما وصل التطرّف مداه مع الانتخابات الإسرائيلية أخيرا، والحكومة قيد التشكل التي لا تقيم وزناً للسلام شكلاً وموضوعاً ونهجاً. كما لم يتوقف العائد إلى السلطة، نتنياهو، عن التبجّح بالتطبيع مع بعض الأنظمة العربية باعتباره إقراراً للأمر الواقع، الذي فرضته الدولة العبرية على الأرض بما في ذلك تجاهل القضية الفلسطينية والقفز عنها.

في السياق، لا بد من الانتباه إلى استغلال بعض الأنظمة العربية تراجع تلك المدعية القومية وفشلها، لتبني سياساتٍ قُطرية محلية ضيّقة بعيداً عن الإطار القومي الجامع، رغم أن المصلحة المنطقية والواقعية على كل الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية الجامعة هي قومية بامتياز، حتى بالمعنى القُطري الضيق، فمصلحة المغرب مثلاً هي في الإطار العربي المغاربي والعربي الواسع، وأمر مماثل يمكن قوله عن الإمارات في الإطار الخليجي والعربي الواسع أيضاً.

أوجدت الأنظمة نفسها الأجواء السلبية عن الوحدة والقومية، ثم استغلتها لإزالة القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى عن الأجندة، ولم تعد تعنيها أو تحضر في تحديد العلاقة مع إسرائيل والقوى الإقليمية والدولية بشكل عام، رغم أن فكرة زرع إسرائيل الاستعمارية، أصلا، كانت بغرض الهيمنة، ومنع وحدة العرب ونهضتهم، و”لو لم تكن هناك لكان علينا إيجادها”، كما قال رئيس للولايات المتحدة بايدن في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع الانتباه إلى رعاية الدول الاستعمارية الدولة العبرية، بوصفها استثمارا استعماريا غربيا في قلب منطقتنا العربية، بل الحوض العربي الإسلامي كله الممتد من ماليزيا إلى طنجة.

كان مونديال قطر مناسبة للتوافق والتصرّف كأمة واحدة ذات رسالة خالدة فعلاً، ولكن ليس بالمعنى الاستبدادي القمعي لحزب البعث، وإنما عبر التواصل الحضاري، والكرم والتسامح والتعبير الحضاري السلمي عن المزاج الجماهيري العام، رغم الظلم والاستكبار والغطرسة التي تعاطى الغرب عبرها مع المونديال والعالم العربي الإسلامي بشكل عام. حضر في المونديال التكاتف الجماهيري العربي حول قطر وفلسطين والمنتخبات العربية، خصوصا منتخب المغرب. وعموماً، اتضح جلياً أن الفكرة القومية الوحدوية متجذّرة في العقل الجمعي العربي، والذاكرة التاريخية للشعوب تتناقلها الأجيال، واحدا بعد آخر، ويتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، ولا تحتاج إلى القهر أو القبضة الحديدية، وإنما إشاعة أجواء الحرية والديمقراطية، وإعطاء الشعوب الفرصة للتعبير عن إرادتها ومزاجها وعقلها العام كلما وجدت الشعوب الجماهير الحرية والديمقراطية عبرت عن قناعتها من دون خوف أو عقد.

في السياق، كان لممثلي الثورات العربية الأصيلة وأبنائها حضور بارز في المونديال وأجوائه في الدوحة، ما عزّز أصلاً معاني الوحدة العربية، ودفَن التطبيع والاتفاقيات مع إسرائيل. وعليه، جاء الحكم الشعبي الجماهيري قاطعاً وحاسماً وباتاً ولا استئناف عليه. والوحدة العربية التي رأينا تعبيراتها في المعطيات والوقائع السابقة لم تسقط ولم تكن يوماً شعارات دعائية أو غير واقعية وصحيحة.

في الأخير، وباختصار وتركيز، وضمن إيجابيات مونديال قطر واستنتاجاته، عشنا نحن العرب تجسيد الوحدة العربية حقيقة راسخة في التكاتف الشعبي والجماهيري حول قطر ممثلة لنا في تنظيم المونديال، وبالتالي، في التصدّي للحملة الظالمة والعنصرية ضدّها، وفي الالتفاف حول المنتخب المغربي باعتباره ممثلاً للعرب جميعاً، كما في حضور فلسطين وقضيتها ورفع علمها في ساحات المونديال وميادينه ومنابره وكأنها المشارك رقم 33 فيه، كما في الرفض القاطع للتطبيع مع الدولة العبرية. وقد تحقق هذا كله بشكل سلمي وحضاري وديمقراطي، من دون إكراه واستبداد وعنف، فالأمر لا يحتاج ذلك أصلاً.

مقالات ذات صلة