على أعتاب كارثة حرارية

جمال زحالقة

حرير- صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش، في مؤتمر صحافي عقده الخميس الماضي، بأن «حقبة الاحتباس الحراري شارفت على الانتهاء، وبدأ عصر «الغليان العالمي»، درجة الحرارة صارت لا تطاق، ومستوى أرباح الوقود الأحفوري غير معقولة، والعمل المناخي أدنى من المطلوب بكثير». وأضاف أن هناك إجماعا لهيئات الرصد الجوي بأن «شهر يوليو 2023، هو الأكثر سخونة على الإطلاق منذ مئات السنين. وموجات الحر أصبحت مرعبة». وقال كبير مستشاري شؤون الموجات الحرارية في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية المتفرّعة عن الأمم المتحدة: «موجات الحر في تزايد مستمر وعلى العالم تجهيز نفسه لموجات أكثر وأطول وأشد».

حر غير مسبوق

تعالت في الأسابيع الأخيرة في شهر يوليو صرخات استغاثة من منظمات دولية وباحثين وعلماء وناشطي بيئة بضرورة العمل فورا لإنقاذ العالم من الكارثة «الحرارية»، عبر الإسراع في خفض استعمال الوقود الأحفوري لمنع انفلات الارتفاع في درجة الحرارة من جهة، وتجهيز الناس بوسائل الحماية من تقلبات الطقس الشديدة، خاصة الحرارة المرتفعة، التي تسبب أضرارا فادحة لصحة البشر وجودة حياتهم، وتدمّر الزراعة والبيئة الطبيعية، وقد تؤدّي إلى فيضانات وغرق جزر ومدن، وتجعل حياة الناس على الأرض أكثر صعوبة.

ليست الكارثة الحرارية مجرد تنبّؤات بالمستقبل، بل أضحت واقعا تعيشه البشرية وتدفع ثمنه غاليا، ولكن الأضرار لا تتوزّع بالتساوي، فالمنطقة العربية تحديدا تعاني من تفاقم متواصل في شح المياه، وهي من أكثر المناطق في العالم تعرّضا لأضرار تغيّر المناخ، وفيها ترتفع معدّلات درجات الحرارة أكثر من غيرها، وينخفض هطول الأمطار باستمرار وبشكل مقلق، وهي اليوم أكثر جفافا من الماضي، وتواجه موجات متزايدة من الفيضانات والحرائق واتساع رقعة التصحّر.

جفاف في العراق

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» على رأس موقعها على الإنترنت، هذا الأسبوع، تقريرا مثيرا بعنوان «إنذار مناخي من مهد الحضارة»، استعرضت فيه الأحوال الصعبة، التي يعاني منها الناس في العراق نتيجة الآثار المدمّرة للاحتباس الحراري وآثاره في شح المياه والتصحّر وتدمير الزراعة. ويفيد تقرير للأمم المتحدة بأن العراق في الموقع الخامس دوليا من حيث الحساسية والعرضة للتضرر بدرجات الحرارة المتطرّفة وشح المياه ونقص الغذاء.

ولكن الصحيفة لم تتطرق إلى الآثار المدمّرة للاجتياح الأمريكي للعراق قبل عشرين عاما، وكيف ساهم في إضعاف الدولة العراقية وشل قدرتها على التعامل مع مشاكل التصحّر والجفاف، وتبذير الماء في الري التقليدي، وجعلها عاجزة عن الدفاع عن حقوق الشعب العراقي «المائية» في وجه النهب الإيراني والتركي، ولعل ما حدث بشأن دجلة والفرات، كان دليلا إضافيا على الوهن العربي، ما قد يكون قد ساهم في فتح شهية إثيوبيا في مياه النيل. ما من شك بأن العراق بحاجة إلى خطة إنقاذ للخروج من أزمته البيئية والزراعية، ولمواجهة أزمة المناخ التي تضرب به قويا. لا يعقل أن يكون «مهد الحضارة» في آخر قائمة الدول القادرة على حماية نفسها وشعبها في مواجهة التقلبات المتطرّفة في المناخ، والعراق تاريخيا بلاد الزراعة والخصب ومهد فكرة الخصوبة.

هل يتعاون العرب؟

ولكن العراق ليس وحيدا، فالدول العربية جميعها أكثر عرضة لأضرار موجات الحرارة المتفاقمة، وأقل قدرة وجهوزية لمواجهتها، ومن اللافت للانتباه أيضا أن عددا من كبار المحللين اليساريين، ذهبوا إلى أن إسقاطات تغيّر المناخ هي من الأسباب الكامنة خلف الأزمات الدامية في سوريا والسودان والعراق واليمن. وأشار تقرير موسّع للأمم المتحدة إلى أن إعادة توطين اللاجئين في هذه البلاد، يصطدم بصعوبات جمّة لها علاقة بشح الموارد المائية وخراب الأراضي الزراعية. ورغم أن التعويل على تعاون عربي من أي نوع، صار يطرح على استحياء ويعتبر ضربا من الخيال ونوعا من الشطط، فإنه تصح المجاهرة بالمناداة إلى تغليب المصالح الكبرى على الحسابات الصغيرة وعلى المماحكة والتشفّي، والمبادرة إلى مشروع عربي متكامل لحماية الذات العربية في وجهة المتغيّرات المتعلّقة بالمناخ والبيئة التي تعصف بالعالم وبالمجتمعات الإنسانية قاطبة، وربما يُفتح الباب لتعاون إقليمي عربي تركي إيراني في مجال البيئة على الأقل.

والمشاكل الناجمة عن أزمة المناخ كلها من الوزن الثقيل: كيف ستتأقلم الدول المصدّرة للنفط والغاز مع الانتقال إلى الطاقة الخضراء؟ كيف يمكن حل مشاكل التصحّر؟ كيف نضمن توفير كميات مياه كافية ونظيفة لكل العرب؟ وهل سيتعلّم العرب دروسا من غزّة، التي تنتج اليوم أعلى نسبة من الطاقة الشمسية في العالم كلّه؟ طبعا للساسة حساباتهم، التي عادة ما تكون ضيّقة الأفق وقصيرة الأمد، ولكن حتى الساسة العرب لا يستطيعون تجاهل الرأي العام وصرخات الناس، لذا فقد آن الأوان لطرح قضية تبعات موجات الحر على المجتمعات العربية بكل قوّة، فهي مرشّحة للتفاقم أكثر في الأشهر القريبة والسنة المقبلة والعقد المقبل.

عودة إلى البيت المصري

أذكر أنّي قرأت قبل سنين طويلة مقالا مهنيا، جرى فيه تحليل ميّزات البيت المصري الفرعوني القديم، الذي جرى تصميمه لجعل ساكنيه أكثر قدرة على تحمّل البيئة الحارّة، وخلص المقال إلى استنتاج حاسم وهو أنه «البيت الطبيعي المثالي» في طقس شديد الحرارة: الحيطان من طوب طيني سميك، والسقف عالٍ، والأفنية واسعة والباحات مظللة والنوافذ العلوية (ملاقف الهواء) وكل الفتحات مصممة بشكل محكم لضمان انسياب الهواء بأفضل ما يكون، بحيث تدخل الرياح الشمالية الباردة من الملاقف ذوات الاتجاه الدقيق لتطرد هواء الرياح الجنوبية الحارة.

وقد حافظت العمارة المصرية على نظام الملقف حتى مطلع القرن العشرين، وصارت بعدها وبالتدريج تعتمد على المراوح وغيرها من أساليب التهوية الحديثة. لقد انتشرت أسس بناء البيت المصري في أنحاء البحر المتوسّط كافة، وصار لكل بلد بيته التقليدي. ففي فلسطين مثلا، كانت البيوت الريفية مكوّنة من غرفة واسعة لها نوافذ ضيّقة وجدران سميكة من حجر وطين، وسقف عال من خشب وطين. وأذكر جيّدا كم كان بيت جدي باردا نسبيا في أوقات الحر، لقد اختفت هذه البيوت عن الوجود، ولكن ظهرت مؤخّرا دعوات للعودة إلى مبادئ البناء التقليدي البارد صيفا، والعزوف عن استيراد طرق البناء الغربية الحابسة للحرارة، كما جرى تطويرها انطلاقا من أحوال الطقس في دول الشمال.

البناء التقليدي في حوض المتوسّط يوفّر بشكل كبير استهلاك الطاقة لغرض التبريد، وبالتالي يساهم في تقليص انبعاث غازات الدفيئة. والتبريد تحديدا يستهلك حوالي 10% من إجمالي الطاقة الأحفورية، وهي نسبة تفوق نسبة الطاقة المستغلة من قبل الملاحة الجوية والبحرية معا. هذه ليست دعوة للعودة إلى التراث، بل للاستفادة من التراث باستعمال تقنيات حديثة مثل الجدران المزدوجة العازلة للحرارة وتكثيف التظليل وضمان تدفق الهواء، ما قد يوفّر كثيرا من استعمال الوقود الأحفوري، الذي ينتج المزيد من ارتفاع الحرارة.

أضرار هائلة وحلول ممكنة

لا تظهر الأضرار التي تسببها موجات الحر الشديد، إلّا بعد مضي أسابيع وحتى أشهر، وعليه فإن نتائج موجة يوليو غير معروفة بعد. لكن التجارب تدل على أن كل حالة حر شديد تسبب أضرارا صحية بالغة تبدأ بالإجهاد الحراري وصولا إلى ضربات شمس قد تكون فتّاكة، كما تُفاقم موجات الحر حالات مرضية قائمة وقد تؤدي إلى وفاة بعض المرضى، كما أن لها آثارا سلبية جدا على الجهاز التنفسي لأنّها تزيد من إمكانية الإصابة بالربو وبمرض الانسداد الرئوي المزمن، إضافة إلى زيادة مخاطر أمراض القلب والدورة الدموية. وهناك أيضا حاجة للانتباه إلى كبار السن والأطفال، فهم أكثر حساسية للحر من غيرهم.

وبلا مبالغة يمكن القول بأن موجات الحر الشديد، وعدم الوقاية منها، قد تسبب مباشرة بموت عشرات الآلاف من الناس، إضافة إلى آثار بالغة غير مباشرة. أزمة المناخ غير قابلة للحل بلا تعاون دولي وتخطيط مجتمعي شامل. لكن من الخطأ القول بأنها أزمة من صنع البشرية، فهي في حقيقتها من صنع الرأسمالية. والمتضرر هو البشرية جمعاء، لكن الفاعل هو النظام الرأسمالي، بل الدول الرأسمالية المتطوّرة، التي تتحمل المسؤولية الكبرى. وفي حين أن فقراء العالم هم أكثر من يدفع الثمن، فهم ليسوا من خلق المشكلة.

ويبقى السؤال الكبير: هل تستطيع الرأسمالية، التي قامت بثورتها الصناعية انطلاقا من الوقود الأحفوري، حل أزمة المناخ التي أنتجتها عبر التعامل مع الطبيعة كمجرد سلعة؟ لقد وصل التغيّر المناخي إلى مرحلة الخطر الشديد، والسقف، الذي وضعته المنظمات الدولية، بعدم ارتفاع الحرارة بأكثر من 1.5 درجة مئوية، غير قابل للتحقيق إذا لم تتخذ إجراءات صارمة فورية. فهل يمكن للدول أن تفرض على الرأسماليين فطاما عن الغاز والبترول؟ هذا صراع بين مبدأ الربح الرأسمالي ومبدأ حماية البشر والطبيعة. وعلى البشر أن ينحازوا فيه لأنفسهم.

مقالات ذات صلة