ما الذي تريده «إسرائيل» من المجزرة؟

باسل رزق

وكان رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيورا آيلاند، أكثر راحة وتخففًا في الحديث عن الانتقام من قطاع غزة، إذ قال، وهو أحد أصحاب واحد من مشاريع تهجير قطاع غزة إلى سيناء: «غزة دولة. أنت تقاتل ضد دولة، أنت لا تقاتل ضد جيشها فحسب، بل ضد جميع قدراتها، بما في ذلك القدرات الاقتصادية (..) إذا أردنا أن نرى المختطفين على قيد الحياة، فإن الطريقة الوحيدة هي خلق أزمة إنسانية حادة في غزة وعندما تصرخ المؤسسات الدولية حول الأزمة الإنسانية في غزة والجثث التي تتراكم في المستشفى ولا تستطيع علاجها، سنعود ونقول: ليس لدينا مشكلة في حل المشاكل الحقيقية في غزة، لكن أعيدوا لنا أسرانا أولًا».

وكان التصريح الأبرز والأحدث على لسان وزير التراث عميخاي إلياهو، الذي قال: «لا يوجد شيء اسمه غير متورط في غزة»، ورد إلياهو عندما سئل عما إذا كان ينبغي إسقاط قنبلة نووية على كل غزة بالقول: «هذا أحد الخيارات».

ورغم أن هذا التصريح قد تسبّب بموجة انتقادات إسرائيلية، إلّا أن هذه الانتقادات كان مردّها التفكير بالشرعية الدولية ونافذة الوقت المتاحة لـ«إسرائيل»، وهو ما عبرت عنه الولايات المتحدة بطلبها من «إسرائيل» قصف القطاع بقنابل أصغر. كما ارتبطت الانتقادات بوجود أسرى إسرائيليين في القطاع، وبالتالي فتصريحات إلياهو تتجاهل عاملًا داخليًا.

في «إسرائيل» يُنظر إلى التهجير أو النكبة بمثابة مشروع غير مكتمل حتى الآن يُسعى إلى تحقيقه طوال الوقت. مشروع تختلف وتيرته وتتعدد وسائله، دون غيابه كغاية نهائية.

ورغم مهاجمة تصريحات إلياهو «الفظة»، إلّا أن ذلك لم يعن بأي شكل رأفة بغزة وأهلها تجاوز الإجماع على «الانتقام» من القطاع، إذ لا يحضر عدد الشهداء ولا صور الدمار الهائل في وسائل الإعلام الإسرائيلية. بل إن أكثر الصحف «ليبرالية» مثل «هآرتس»، نشرت مقالًا يعارض تصريحات إلياهو، لأنها «تمنح أدلة على قيام «إسرائيل» بإبادة جماعية ستنتهي بالتطهير العرقي».

فيما تطوع الأكاديميّون لتقديم أدلة على أن «إسرائيل» لا ترتكب «إبادة جماعية» في غزة، ولتقديم تفسيرات إسرائيلية للقانون الدولي، تبرر وتساهم في المجزرة الحالية.

ويمكن القول إن أوقح تعبير عن الإجماع الإسرائيلي على الإبادة جاء برسالة من أطباء إسرائيليين، جاء فيها: «سكان غزة الذين رأوا أنه من المناسب تحويل المستشفيات إلى أعشاش للإرهاب في محاولة لاستغلال الأخلاق الغربية، هم الذين جلبوا على أنفسهم الدمار، ويجب القضاء على الإرهاب في كل مكان وبكل طريقة». على اعتبار أنه وبما أن «إسرائيل» بلد غربي، فإنها لن تقصف المستشفيات!

من الصعب تفريق هذه العريضة عن بيانات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، الذي يكرر الحديث نفسه منذ بداية العدوان بصيغ متعددة. فيما دعا رئيس مجلس الأمني القومي الأسبق مئير بن شبات إلى «تبكير ضرب المستشفيات، بدلًا من انتظار الوقت».

في المجزرة الكبيرة والمستمرّة في قطاع غزة، ترك الأثر على مدى سنوات، هو واحد من الأهداف، وبرز ذلك في تفاعل جدعون ساعر، الذي انضم لحكومة الحرب، مع نص زئيف جابوتنسكي، «الجدار الحديدي»، الذي تمر مئوية نشره هذه الأيام، إذ قال ساعر: «إن اختراق [الجدار الحديدي] حدث خطير في نظر أعدائنا وجيراننا. ومهمة جيلنا ستكون إعادة بناء الجدار الحديدي وسد كل ثغرة فيه. والطريق إلى ذلك مصمم في الحملة الحالية».

وتتشابك الحالة الإنسانية مع العدوان الإسرائيلي وترك تأثيرا طويل الأمد، إذ قال الكاتب الإسرائيلي تسفي بارئيل«وفقًا للتصور الإسرائيلي، فإن الأزمة الإنسانية هي جزء من الترسانة الموجودة تحت تصرفها»، وأحد أدوارها هو أن «تغرس في وعي الفلسطينيين العقاب المروّع الذي سيتعرضون له في حال تحدوا «إسرائيل»».

وحتى الاعتراض الإسرائيلي على نتنياهو، ومطالبته بالاستقالة، ورغم أنه أمر غير مسبوق أثناء الحرب في «إسرائيل»، إلّا أنه لا يتعدى الإجماع الإسرائيلي على «الانتقام» واستمرار العدوان على غزة، وإنما يدخل ضمن البحث عن «الشخص الأفضل» لقيادة العدوان على غزة.

المجرزة مُحرك «إسرائيل»

تقترح دراسات عدة، فهم حالة الاستعمار الاستيطاني، باعتبارها «بنية وليست حدثًا، لذلك فإن المحو قاعدة منظمة لمجتمع الاستعمار الاستيطاني أكثر من كونه حدثًا يقع لمرة واحدة».[1] والمحو بما يشمل القتل والتهجير، قاعدة مؤسسة. وفي «إسرائيل» يُنظر إلى التهجير أو النكبة بمثابة مشروع غير مكتمل حتى الآن يُسعى إلى تحقيقه طوال الوقت. مشروع تختلف وتيرته وتتعدد وسائله، دون غيابه كغاية نهائية.

يمكن فهم حرب الإبادة التي تقوم بها «إسرائيل» اليوم في غزة، باعتبارها وسيلة تحكم تقود في النهاية إلى الغاية الأصلية، وهي المحو. فتبيد جزءًا من السكان، وتجعل من القطاع مكانًا غير قابل للحياة فيه، وبالتالي تسهّل مشروع التهجير.

منذ نكبة 1948، وهي اللحظة التي أشار لها نتنياهو بالقول، «هذه هي حرب استقلالنا الثانية»، كانت المجزرة مرتبطة بالتهجير، ومن الأمثلة على كذلك مجزرة دير ياسين التي نظرت لها الكثير من الأدبيات باعتبارها عاملًا مساهمًا في تهجير عدة مناطق فلسطينية. وصولًا إلى مجزرة كفر قاسم، التي كان الهدف الأساسي منها، استكمال مشروع تهجير المثلث، الذي لم يتحقق في النكبة، بحيث يكون القتل الجماعي والعشوائي، والحالة التي يثيرها، عاملًا في التهجير.[2]

يمكن فهم حرب الإبادة التي تقوم بها «إسرائيل» اليوم في غزة، باعتبارها وسيلة تحكم تقود في النهاية إلى الغاية الأصلية، وهي المحو. فتبيد جزءًا من السكان، وتجعل من القطاع مكانًا غير قابل للحياة فيه، وبالتالي تسهّل مشروع التهجير.

 

كان السكان المشكلة «المزعجة» للحركة الصهيونية، منذ ما قبل نكبة 1948، فكان الجواب الأساسي على هذه المشكلة هو فكرة الترحيل/ الترانسفير، التي كانت حاضرةً في فكر الحركة الصهيونية. وشكلت النكبة، الفرصة المثالية لتحقيق السيطرة على الأرض بأقل عدد من السكان.

وبعد استكمال احتلال فلسطين عام 1967، لم يتحقق الهدف الصهيوني، بإفراغ الأرض من الفلسطينيين، وذلك لعوامل عدة، من بينها الاحتلال السريع للضفة الغربية وقطاع غزة، بما لم يتح الوقت للقيام بعملية تهجير مباشرة، بالإضافة إلى تخوف من إثارة جدل دولي، وعدم جاهزية الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملية التهجير.[3]

لكن فكرة التهجير لم تغب، وإنما تغيّر شكلها عبر سنوات الاحتلال، ومع انسحاب «إسرائيل» من قطاع غزة، وفقدانها للسيطرة المباشرة على القطاع، تحوّلت سياستها نحو الإبادة التدريجية،[4] فحوّلته إلى «غيتو»، استمر في «التعبير عن حبه للحياة بإطلاق الصواريخ تجاه«إسرائيل»»، كما قال إيلان بابيه.

وإضافة لمساعي «رد الاعتبار» بعد السابع من أكتوبر، وترميم الشعور بالأمن والردع بأكبر كمّ من الدماء. والذي عبّر عنه رئيس الموساد السابق بالقول إن «صور الدمار القادمة من غزة، ستردع إمكانية فتح جبهة شمالية»، هنالك الرغبة بالانتقام بعد ما حلّ بـ«إسرائيل» في السابع من أكتوبر.

واحدة من الأمثلة على الانتقام الإسرائيلي، بعد أي عملية فدائية، كانت عمليات الوحدة 101 في الجيش الإسرائيلي، التي قادها أرئيل شارون، ونفذت عمليات انتقامية، وكانت أبرزها مجزرة قبية عام 1953، ومن أبرز جنود هذه الوحدة، مئير هار تسيون، الذي قال مرة: «أنا لا أقول إنه يجب أن نضع [العرب] في شاحنات ونقتلهم. يجب أن نستحدث وضعًا بحيث لا يكون من المجدي بالنسبة إليهم أن يعيشوا هنا، إنما [أن يرحلوا] إلى الأردن أو العربية السعودية أو أي دولة عربية أُخرى»،[5] وهو ما تطور حاليًا، بعد مأسسة الجيش الإسرائيلي، وأصبح يسمى بـ«عقيدة الضاحية» في إشارة للدمار الذي ألحقته «إسرائيل» في الضاحية الجنوبية في بيروت إبان حرب تموز، كنهج انتقامي من المقاومة، يسعى إلى تدفيع بيئتها الاجتماعية ثمن الانتفاض على الاحتلال واحتضان المقاومة، ونتجت هذه العقيدة من العدوان على لبنان عام 2006، ومن ثم طبقت في غزة أعوام 2008 و2014 و2023.

عودة إلى التهجير

بعد أربعة أيام من بداية العدوان الإسرائيلي، كانت الولايات المتحدة صاحبة فكرة فتح ممر آمن من قطاع غزة إلى مصر، وجاء محاولة لـ«إنقاذ» «إسرائيل» على المستوى الدولي، باعتبارها تراعي إمكانية خروج «المدنيين»، وكل هذا دون أي ضمانة بعودتهم أو حتى لطريق خروجهم التي تقصف باستمرار.

ظهرت مؤخرًا خطة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، التي تقترح من بين عدة حلول تهجير أهالي قطاع غزة إلى سيناء، وهي خطة أقرت الحكومة الإسرائيلية بوجودها، ولكنها وصفت بـ«الأولية»، ورغم هامشية الوزارة ودورها في صنع القرار، إلّا أنها تتماهى مع مزاج عام في دوائر صنع القرار الإسرائيلية.

وردد إيتمار بن غفير، موقفًا شبيهًا، بالقول: «لا تريدون رؤية صور الأطفال والمدنيين؟ (في إشارة إلى المجازر التي يرتكبها الاحتلال في غزة) لا مشكلة، أعلنت الحكومة الاسكتلندية أنها مستعدة لاستقبال اللاجئين من غزة. الأطفال والنساء، خذوهم إلى هناك. حماس سيتم تدميرها! نحن لا نتعامل بالشؤون الإنسانية».

اليوم تضع «إسرائيل» أهالي قطاع بين خيار الموت أو الهجرة، في ظل حملة قصف عنيفة يُراد منها تحقيق نكبة ثانية، تساهم في التخلص من «معضلة» غزة التاريخية، وبعد أكثر من 70 عامًا، فشلت «إسرائيل» بإيقاف مقاومة غزة.

 

وفي تصريح إلياهو، الذي تحدث عن استخدام القنبلة النووية كخيار، قال في نهايته: «علينا أن نكبّدهم ثمنًا في الأراضي، وهذا يعني العودة إلى مجمع غوش قطيف [الاستيطاني في قلب قطاع غزة]. علينا، كما قال باراك، أن نبدأ بإخراجهم من هذه الأرض التي يُطلق عليها اسم قطاع غزة. وأن نسمح لهم بالهجرة إلى أماكن أُخرى. هناك أماكن ترغب فيهم، فليأخذوهم بكل سرور».

وقال عضو الكنيست الإسرائيلي أرييل كالنر، في تغريدة على منصة «إكس»: «الآن هدف واحد: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 48». فيما قال رئيس الشاباك الأسبق ووزير الزراعة الحالي آفي دختر: «هذه نكبة غزة 2023».

وعلى مدار سنوات، ظهرت عدة مشاريع تهجير إسرائيلية «ناعمة» في قطاع غزة، مثل محاولة ترتيب هجرة إلى دول عربية أو أمريكا الجنوبية أو أوكرانيا، جاء بعضها بعد عام 2005، عندما فقدت «إسرائيل» السيطرة على الأرض، وبقيت تسعى للتحكم في السكان، أي كانت حربًا بوتيرة منخفضة.[6]

الآن تمارس «إسرائيل» «حرب إبادة»، وتُبقي سكان غزة على حافة الحياة، بعد حملة قصفٍ واسعة، ويوصف تقدمها في العدوان البري، بأنه «التقدم بمعيار D-9»، أي أن تقدم الجنود محكوم بالأساس بالدمار. يأتي ذلك مع السعي إلى دفع أهالي القطاع إلى جنوبه، بعد فشل مشروع تهجير أهالي القطاع إلى مصر.[7]

كانت واحدة من الخلاصات الإسرائيلية الأولى في حرب النكبة أن حوالي 70% من هجرة الفلسطينيين خلال الحرب جاءت بسبب العمليات العسكرية للمليشيات الصهيونية بشكلٍ مباشر، وأكثر من 94% منها نتيجة تحركات صهيونية، مثل التحذيرات والحرب النفسية.[8] اليوم تضع «إسرائيل» أهالي قطاع بين خيار الموت أو الهجرة، في ظل حملة قصف عنيفة يُراد منها تحقيق نكبة ثانية، تساهم في التخلص من «معضلة» غزة التاريخية، وبعد أكثر من 70 عامًا، فشلت «إسرائيل» بإيقاف مقاومة غزة. 

– حبر .. 7eber

مقالات ذات صلة