ألم يحِن أوان التمرّد على أميركا؟

لميس أندوني

حرير- إذا كان الزعماء العرب ينتظرون أن تطلق واشنطن مبادرة “سلام” بعد تدمير غزّة وهزيمة حركة حماس فهم واهمون، فلن تقدّم أميركا، إذا استطاعت إسرائيل تحقيق أهدافها، سوى فرض شروط جديدة من الاستعباد والتركيع على الجميع. تخطئ أي حكومة عربية بالاعتقاد، ولو للحظة، أن هزيمة “حماس” ستشكّل راحة لها أو استراحة، بل مرحلة من ديكتاتورية أميركية غير مسبوقة، هذا إذا افترضنا نجاحها في تدمير المقاومة في غزة ولو لمرحلة ما.

وعليه… من الأفضل لجميع الدول إعادة حساباتها، فبدلا من الانتظار، هناك فرصة للمشاركة في تشكيل قوّة عالمية جديدة، معاً مع دول الجنوب، فبالرغم من كمّ المشاهد التي تسحق القلب من إبادة جماعية تجري أمام الكاميرات والشاشات، هناك لحظةٌ فارقة بدأت تتشكّل، ورأينا في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوف الأغلبية ضد الهيمنة الأميركية.

صحيحٌ أن قرارات الجمعية العامة غير مُلزِمة، لكنها عكست نوعا من التمرّد على أميركا، وهو تكملة للتمرّد الأفريقي ضد النفوذين، الأميركي والفرنسي، في القارّة السوداء، يجب استغلاله، وإلا ما فائدة نصر دبلوماسي قاده الأردن إذا لم يوظَّف استراتيجيا؟ هو إنجازٌ دفعت، وتدفع غزّة وأهلها ثمنه، وتدفع ما لا يتخيّله عقلٌ من فواجع لا نهاية لها، فالتقاعس، بل التواطؤ، هو مشاركة في إبادة جماعية ترتكبها الدولة الصهيونية، غير آبهةٍ بأحد، وحتى وإن أزعجتها وأغضبتها تصريحات بعض الزعماء العرب، فهي مرتاحةٌ، لأن مصالحها لن تتضرّر، فحتى سحب السفيرين، كما فعلت عمّان، إجراء وقتيٌّ حتى تنتهي الحرب!

وهنا نسأل؛ ماذا تعني الدول العربية بجملة “حتى تتوقف الحرب”؟ إذا كانت تهديدا؛ فلا معنى لها ما دامت مصالح إسرائيل واتفاقات التطبيع لم تتأثر؟ بغض النظر عن إغلاق أي دولة عربية السفارة الصهيونية مؤقتا، فعمليا يعطي هذا تل أبيب مهلة لتستطيع القضاء على “حماس” وأهل غزّة.

ماذا تنتظر الأنظمة بعد حتى تتحرّك؟ فيما شعوب العالم قد تحرّكت. موجات بحر هائج ضد إسرائيل تجتاح العالم وحتى الغرب وأميركا، ولا فعل عربيا بمستوى قباحة الجريمة وبمستوى شجاعة المقاومة وأهل غزّة، فهذا بعيدٌ سنوات ضوئية عمّن استكان لهيمنة أميركا وإسرائيل. لكن؛ ألا يخاف الحكّام على أنفسهم!

يمكن أن يكون مصدر الخوف غضب الجماهير، وهو خوفٌ محقّ ومستحق، فالشعوب يجب أن تكون مصدر الشرعية والسلطات. لكن؛ ألا يخاف الحكّام من أن كل ما فعلوه لإرضاء واشنطن لم ولن ينفعهم بعد الآن؟ فهناك حالة تغوّل أميركي قد تكون غير مسبوقة، لأنها اكتشفت حدود هيمنتها وذلك يزيدها شراسة وتجاوزاً، فلا ترى صديقا أو تابعا إلا إذا انصاع لها، ولن ترحمه بعد هذه المعركة، بغضّ النظر عن نتيجتها. أما التذرع بعدم القدرة فهو تذرّع جبان، فأميركا، برغم كل سطوتها وترسانتها العسكرية، لا تعتمد على قوّتها فقط، وإنما على ضعف الآخرين. لذلك، الانتقال من خانة الشلل والعجز إلى خانة الفعل، لن أقول يحتاج ضميرا وشجاعة، لأنني أخشى التعويل على ذلك، بل هو بالمراهنة على إدراك الحكومات العربية أن أميركا وإسرائيل خطران عليها، لأن ذلك الوعي والفهم قد يحرّكها قبل فوات الأوان.

واذا لم تُستغَلّ لحظة تمرد عالمي على أميركا لفرض وقف العدوان وجريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وهذا أضعف الإيمان، فلن تستطيع فعل أي شيء للدفاع عن نفسها. ما أريد قوله بوضوح هنا هو أن النظام الرسمي العربي يتحمّل مسؤولية عجزه وغياب إرادته لوقف جريمة ماثلة أمامه، فالتأكيد على رفض التهجير القسري للفلسطينيين إلى صحراء سيناء ومصر، أو من الضفة الغربية إلى الأردن، مهم، لكنه لن يوقف التهجير. وقد تتحوّل هذه التصريحات إلى مخاوف وردود فعل معادية ضد الفلسطينيين المهجرين.

المطلوب منع نكبة جديدة، وإن كانت النكبة منذ عام 1948 مستمرّة. تستطيع الدول العربية أن تفعل ذلك، ولا عذر أو تعليل لعجزها، إلا إذا كانت تأمل إنهاء المقاومة، ويتمنّى بعضها ذلك، وفي هذه الحالة، توجد كلمات أخرى غير “التواطؤ” تصفها، وإن كان ذلك غير مهم هذه اللحظة، الأهم أن تفهم أنها مهدّدة، لعلّ مصالحها تحرّكها، قبلت أو لم تقبل، فالحقيقة تبقى أنّ انتصار إسرائيل يهدّد مصالحها.

تداول كثيرون مقال المسؤول الأميركي السابق دينس روس في “نيويورك تايمز”، الذي “يكشف”، وإن ليس ذلك سرّا، أن مسؤولين عربا يجاهرون بأحاديثهم الخاصة معه برغبتهم بالقضاء على “حماس”. لكن الأهم هو ما استدعى روس إلى كتابة هذا، وهو الموصوف أميركياً بـأنه “محامي إسرائيل”، لتشدّده في صهيونيته، فهو يعي تماما أنّ في ذلك تهديدا مبطّنا لبعض الحكّام العرب، بفضحهم لجعلهم يتوقفون عن إدانة إسرائيل، ولو لفظيا.

السياسيون الصهاينة مثل روس، وهم كُثر، تستقبلهم القصور العربية والنخب بكل ترحاب، وتبدأ جلسات من البوح، من طرف واحد هو العربي، فهناك وهم راسخ أن بإمكان هؤلاء حماية أنظمة وحكام نتيجة نفوذهم في واشنطن، بينما يقوم روس وأمثاله بتحرير أفكار يردّدها هؤلاء المسؤولون النخب بفخر، ولا يهمّهم أنها تخدم إسرائيل وأميركا فقط. والواضح أن روس وجماعته في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مصدومون من عملية “حماس” على عدة مواقع إسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتأييد الشارع العربي للشعب الفلسطيني، بل وغضب هذا الشارع من المسؤولين العرب، لذا كتب مقاله المسموم بعنوان “لماذا لا أؤيد وقف إطلاق النار”، ليذكّر الحكومات العربية وأصدقاءه من النخب بأن هذا هو الموقف المطلوب.

غضب صهاينة واشنطن مصدر قوة لنا، وهذه هي الرسالة التي يجب أن يفهمها صنّاع القرار العرب، والنخب المضادّة المستسلمة، أن “أي موقف عربي حازم أمرٌ مهم”، وبخاصة الآن مع التغير الجذري في الرأي العام الغربي، وانكشاف كذب تل أبيب. ويحاول روس وهؤلاء وأمثالهم من خلال الإعلام إعادة تلقين النخب والحكومات “بالموقف الصحيح”، وهو إعطاء مهلة لإسرائيل للقضاء على “حماس” وأهل غزّة.

إلى فترة قريبة، بل أيام، كانت النخب العربية تستضيف مبعوثي المراكز الصهيونية الأميركية في جلسات مغلقة للنقاش في أمور مصيرية، وآن الأوان ليتوقّف ذلك كله، فالمشكلة ليست في خنوع الحكومات فقط، وإنما في خنوع النخب، وما نراه من غياب إرادة الحكومات لا تتحمّله الحكومات فقط، بل والنخب. ومن المشين أن نرى رؤساء كولومبيا وبوليفيا وتشيلي والأرجنتين يأخذون مواقف شُجاعة مقابل جبنٍ رسميٍّ عربي. أولئك يفهمون ويمارسون التضامن الأممي، وملتزمون بالقضايا العادلة، ومنها قضية فلسطين، وهي مواقف لا غرابة فيها، لكننا نستحضرها تحية لهم، وللمقارنة بالتخاذل الرسمي العربي.

إذا كان العرب ينتظرون من الرئيس الأميركي جو بايدن خطابا مماثلا لخطاب جورج بوش الأب بعد حرب العراق عام 1991، فهم ليسوا واهمين فقط، بل لم يتعلّموا شيئا، فذلك الخطاب الذي تلاه مؤتمر مدريد للسلام لم يكن إلا مخدّرا، قدمته أميركا لإيهام العرب “المهزومين” بأنها تسعى إلى حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية، وإذا كانت الحكومات العربية تنتظر حلا جديدا قادما من أميركا، فإنها تكذب على نفسها، أو تنتظر فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، وهذا ليس وهما، بل مشاركة قي جريمة أخرى تتبع جريمة الإبادة في غزّة.

مقالات ذات صلة