مغامرات المقاتلين … بين بريغوجين وحميدتي

مدى الفاتح

حرير- كنت قد نشرت مقالاً بعنوان “ماذا لو خرجت فاغنر عن السيطرة؟” قبل حوالي شهر من الحادثة التي أطلق عليها إعلامياً اسم تمرّد يفغيني بريغوجين. استند السؤال إلى تصريحات قائد “فاغنر” الغاضبة، التي كانت شغلت وسائل الإعلام حينها، والتي توجهت بشكل مباشر للجيش الروسي وقيادته، التي تسببت، وفق برغوجين، في وقوع خسائر كبيرة ضمن جنوده في منطقة باخموت في أوكرانيا.

لم يكن ذلك المؤشّر الوحيد على وجود ما هو غير طبيعي، فكان بريغوجين متّهماً بالتواصل مع الأوكرانيين وتبادل المعلومات معهم من أجل إنقاذ رجاله واستخلاص الأسرى، ليُضاف ذلك إلى شكوكٍ سابقة حول طموحه السياسي، خصوصا بعد انتقاله من البقاء في الظل إلى مرحلة الظهور الإعلامي المكثف. مع ذلك كله، كان وصول الأمر إلى درجة التمرّد المعلن أو إعلان الحرب على مؤسّسات الدولة مستبعداً بالنسبة لكثيرين استناداً للعلاقة القوية، التي كانت تجمع الرئيس الروسي، بوتين، بقائد “فاغنر”، حتى أن وسائل الإعلام مالت إلى القول إن تواصل الأخير مع الأوكرانيين كان بعلم القيادة الروسية.

بالنسبة إليّ، وربما لأن التجربة السودانية كانت ما تزال حاضرة في ذهني، لم يكن هذا كله كافيًا لاستبعاد قيام بريغوجين بمغامرة يعزّز فيها من قوته وسلطته. في السودان، لم يكن محمد حمدان دقلو (حميدتي) فقط مجرد قائد منظمّة عسكرية، وإنما كان أيضاً في منصب نائب رئيس الدولة، لكن ذلك كله لم يمنعه من أن يفكر بالانفراد بالسلطة. وهناك مفارقة أخرى، فبقدر ما يزداد التأكيد على العلاقة الطيبة بين كل من بوتين وبريغوجين بقدر ما يدفعنا ذلك إلى أن نتذكر كيف كان دقلو يتحدّث عن علاقته بالجيش وقائده عبد الفتاح البرهان، إلى درجة أنه خاطب قواته قبل أيام قليلة من بداية الحرب، قائلاً “إذا ضربك عسكري على خدّك الأيمن فلا تردّ واعطه خدّك الأيسر”.

تعلمنا التجربة أن التصريحات لا معنى لها فعلياً، ولا يمكن الاستشهاد بها على حسن العلاقة بين أي جهاتٍ، عسكرية كانت أو مدنية، ففي السياسة، كما في الأعمال العسكرية، يعتمد الفاعلون مبدأ أن “الحرب خدعة”. في السودان، ساهمت الثقة في التصريحات المطمئنة لقائد ما كانت تسمى قوات الدعم السريع في الدخول في حالة استرخاء سلبية، منعت التفكير في الشواهد الظاهرة على وجود تحضير تدريجي لعملية عسكرية.

بادر بريغوجين إلى القول، في نهاية يوم التمرّد، إن غرضه كان إثبات احتجاج وليس ما هو أكثر، وهنا نقطة اختلافٍ مهمة مع تمرّد دقلو في السودان، ففي حين كان الأخير لا يتحدّث بشكل صريح عن غضبه من القيادة العسكرية، كان بريغوجين ينتقد قيادة الجيش الروسي بعنف، معلناً توجّهه إلى موسكو، ما لفت الأنظار إليه داخلياً وخارجيًا. وهذا يتنافى مع منطق الانقلابات، ويجعلنا نميل إلى تصديق أن تحرّكه أخيرا لم يكن يهدف إلى تحقيق انقلاب، وإنما لإثبات وجوده وقوته. بالمقارنة نقول إنه لو أن دقلو أعلن بتحدّ، وهو يجلب قواته من مناطق مختلفة، إنه قادم إلى وسط الخرطوم بغرض عسكري، لكان تم القضاء على تلك القوات، أو على الأقل عرقلة وصولها. ليس بريغوجين، الذي لا تقلّ خبرته العسكرية عن دقلو، ساذجًا وهو يدرك هذه الحقيقة البديهية.

هذه إحدى الشواهد على عدم وجود نيّة انقلابٍ حقيقية، وأن الأمر لم يتعدّ إعلان مواقف منها التحفّظ على مخطّط دمج قوات “فاغنر” داخل الجيش النظامي. بالنسبة لقادة المنظمات العسكرية غير النظامية، ليس هناك ما هو أكثر إزعاجاً من فكرة الضم والدمج في الجيش الرسمي. لا يعني الضم في حالة بريغوجين فقط أن الرجل ذا الأهمية والثقل العالمي سيُصبح بلا وزن، أو أنه سيتحوّل، مع مرور الأيام، إلى مجرّد ضابط، كغيره من العسكريين، ولكنه يعني، بشكل آخر، إنه سيُحرم من موارد كثيرة، بعد أن يتم تجفيف (أو نزع) المؤسّسات المالية التي يديرها، وأيضاً بعد غلق الميزانيات الخاصة، التي كانت تحت تصرّفه، والتي وصلت خلال عام واحد إلى أكثر من مليار دولار.

في السودان أيضاً، كانت فكرة تفكيك “الدعم السريع” من أهم أسباب الأزمة، التي بدأت سياسية، بعد أن أعلنت مجموعات حرصها على وجود قوات دقلو وثقتها بها بوصفها قوات “حامية للديمقراطية”. اليوم، ما يزال بعض المراهنين يطمحون إلى أن تقود الأحداث، في حالة انتصار دقلو، إلى انقلابٍ في المفاهيم بما يؤدي إلى إدماج الجيش في “الدعم السريع”.

في روسيا، أوضح تحرّك بريغوجين، أنه ربما يكون له أنصار في محيط السلطة، فخلال الساعات الساخنة التي بدأ فيها زحفه نحو موسكو بغرض تغيير القيادة العسكرية لم تحدُث أي ردة فعل عسكرية، ولم تنطلق نحوه أي طائرة، ولم يتعرّض لأي تحذير.

وصلت الأحداث ذروتها، حينما وصف الرئيس بوتين رفيقه، الذي طالما كان مقرّباً منه، بـ”الخائن”، الذي وجّه إليه طعنة في الظهر، وذلك على الرغم من أن بريغوجين، حتى في أكثر تصريحاته غضباً، لم يكن يذكُر اسم بوتين أو يعلن رغبته في إسقاطه كما يفعل وهو يتحدّث بانتقاد عن أسماء القيادات العسكرية الأخرى. وبعد هذه الذروة الخطيرة، سرعان ما جرى احتواء الموقف بتراجع بريغوجين، وهو ما جعل متابعين في الخرطوم يشيدون بالحكمة الروسية في تجنّب الحرب، وهي هنا مقارنة في غير موضعها، نظراً إلى الاختلاف الكبير في السياق الداخلي وفي تفاصيل الأزمة.

بالإضافة إلى الاختلافات الظاهرة، تفترض هذه المقارنة مع تطورات الأحداث في السودان أنه جرى بالفعل “احتواء” الحدث بشكل تام ونهائي، وهي خلاصةٌ يصعب أن يقتنع بها أي متابع للشأن الروسي ولطريقة بوتين في التعامل مع التحدّيات، ومع من يصفهم بالخونة، حيث يجمع الخبراء على أن خطوة بريغوجين، التي أظهر بها عورة النظام الأمنية، لن تمضي من دون عقاب رادع، ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة