السلطة اللبنانية تحجُب شعبها عن القضية الفلسطينية

باسل ف. صالح

حرير- المصادفة المحضة هي التي أدّت إلى معرفتي بأمر توغّل قوات الاحتلال في مخيم جنين منذ مدّة، وأسفر عن مجزرة جديدة بعد استشهاد تسعة فلسطينيين وإصابة عشرات. والمصادفة ذاتها هي التي رافقت معرفتي بالعملية الفلسطينية في القدس، وأسفرت عن مقتل ثمانية مستوطنين وجرحى أكثر في صفوفهم. قرأتُ كلاما كثيرا عن شخصٍ يدعى عياش، من دون معرفة ما إذا كان اسمه الأول أو اسم عائلته، وما الذي أقدم عليه بالتحديد، قبل الإعلان عن استشهاد الفلسطيني خيري علقم منفذ العملية، وأن اسم فادي عياش ورد على سبيل الخطأ.

تتكاثر القضايا التي تحجُبها السلطة اللبنانية عن اللبنانيين، بسبب تكاثر القضايا التي تفرضها عليهم، سواء على المستوى المحلي وما تفرضه من قضايا سعر الصرف والصحة والتعليم والأمن والأمان والاتصالات والمحروقات، وصولًا إلى القضاء. أو على المستوى الخارجي وما تفرضه من عناوين تفرض نمطًا رتيبًا، وعناوين “مثالية” باهتة، تفتقر إلى كل المضامين الحقيقية في مقاربة الحركات الشعبية العربية. فمن ناحية، نراها تشوّه عناوين مواجهة الأنظمة القمعية التي تقضي على طموح مواطنيها وحرّيتهم وتقوم على إبادتهم الجسدية. ومن ناحية ثانية، نراها تفرّغ القضايا وتحرّفها عندما تتعلق بالتموضع التام في الخندق الفلسطيني، أي الموقف المبدئي من الصراع مع العدو.

حجزت هذه القوى السلطوية اللبنانية الحاكمة تركيز اللبنانيين، فحصرته في الشروط الأولية للعيش، لمطلق عيشٍ يحاول الإنسان في لبنان إتمامه بأقل الأضرار والأخطار الممكنة. وكأن اللبنانيين عادوا في التاريخ إلى المراحل الأولى ما قبل المجتمع، وما قبل التعاطف الإنساني والفكر التأملي الذي يرفع الوعي الإنساني بمسؤوليته تجاه نظرائه من البشر، وتجاه المجتمع والدولة، وصولًا إلى كل “نتاجات الروح”. وهو ما لم يظهر في تاريخ الدول إلا كعلامة انحطاط غير مسبوق، سواء على مستوى الوعي الاجتماعي التاريخي، أم على المستوى السياسي، أم على المستوى الإنساني.

أدركت السلطة اللبنانية، على مرّ التاريخ، أن أفضل وأسرع طريقة للسيطرة على اللبنانيين هي إلهاؤهم بالطعام والشراب والثياب والحق بالعيش، وإبعادهم عن كل القضايا التي تطوّر مجتمعهم حضاريًا، أو التي تُترجم في قضايا كبرى إنسانيًا وسياسيًا. بمعنى أن السلطة وجدت الطريقة المثلى لتحطيم أية أفكار متخطية الواقع المميت الذي يعيشه اللبنانيون، فحصرت اهتماماتهم في الحاجات الأساسية التي تعود بهم إلى الأصل الغرائزي المعيشي أكثر من الأصل الاجتماعي الحضاري، وعملت بالتالي على إعاقة تفكيرهم بقضايا التطوّر، وقضايا الإنسان، والعلم، والمعرفة، والتقنية، والقضايا الوطنية أو القومية أو حتى الأممية.

ليس هذا الأمر على سبيل المصادفة، وليس على سبيل الفطنة، بل يعود إلى حاجة السلطة المستمرّة للتوحّش في هذه البقعة من العالم، فحين تذهب في هذا المسار، تكون الطبقة الحاكمة قد عملت على القضاء على التأمل الذي يمارسه الإنسان بهدف الترقّي والاكتفاء بتكريس طابع “الالتهام” بهدف الاستمرار عنده، الطابع الذي يبحث فقط وحصرًا في شروط العيش، وفي نمط ما يُعرف بأنه “نمط النجاة”.

من هذا التموضع تحجُب السلطة اللبنانية النظر إلى قضايا الشعوب العربية المحيطة خصوصًا القضية الفلسطينية، ذلك لأن النظر إلى الصراع ضد الاحتلال في فلسطين أصبحت تعيقه هذه المعادلة، فالشعب في لبنان أصبح محطَّمًا لا يمتلك أية رفاهية للنظر في قضايا “غيره”، ولا في نضالاتهم، ولا مشاركتهم فرحتهم ومأساتهم، على الرغم من أن البعيد والقريب يعرفون أن التعاطف والتضامن مع غيرهم لم يعد يجدي أي شكل من أشكال النفع، بقدر ما يزيد من الشعور بالإحباط.

لن يكذب اللبنانيون على أنفسهم، ولا على فلسطين وشعبها ومقاوماتها، فيسجلوا شعورهم بالفخر، أو المأساة، أو الفرح بما تقوم المقاومة الفلسطينية به ضد الاحتلال، على الرغم من قلة وتيرته، وعلى الرغم من السلوك اليائس الذي يتبلور فيه مراتٍ كثيرة، إلا أن هذا الشعور الذي كان يرافق كل ضربةً تؤلم، بات يحكمه كثير من مشاعر اللامبالاة في الشارع اللبناني اليوم، وكأنه من خارج السياق، وكأن أحداثه لا تمسّ اللبنانيين بشكل مباشر، ولا تعنيهم وتؤثّر عليهم، لأنهم مشغولون ومنهمكون بما هو أكثر تأسيسًا من ذلك، مشغولون باليومي والمعيش الذي يتأجل على أيدي هذه السلطة باستمرار.

وفي ظل هذا الانكسار والذل، إن كان لفلسطين ذاتها أن تنطق، فلن تتوانى أبدًا عن تحريض اللبنانيين على النظام الذي يمارس بحقهم كل أنواع الموبقات، والتي تتخطّى، بفظاعتها، ما يمارسه العدو بحق الشعب الفلسطيني أحيانًا كثيرة، فأمر إذلال الشعوب لا يتعلق بالصراع الهوياتي اللغوي والثقافوي والعقائدي … إلخ فحسب، بل هي أشكاله التي تتراجع إلى الخلف عندما يتبلور الشكل الأكثر تأسيسًا للصراع والمتمثل بالصراع على العيش وعلى الحق بالحياة.

لقد احتلت السلطة في لبنان، والكوارث التي أنتجتها، صدارة كل مشهد، فبات اللبنانيون منعزلين عن كل ما يجري في الخلفية، على الرغم من المعرفة التامة بتكاملية المواجهة، سواء في بلدان الربيع العربي، أم في فلسطين والصراع مع العدو. إذ يصحّ القول إنه لم يعد بالإمكان الترفّع عن مصائبهم، ولا الارتفاع فوقها، ولا الردّ على إذلالهم بإشباع من خارج سياق الجريمة التي تمارسها القوى اللبنانية الحاكمة بحقهم في لبنان أولًا وأخيرًا، بل لا بد من النظر في طبيعة الصراع نفسه لاستكشاف وحدة الصراع وتكامليته وإن في دولتين.

مقالات ذات صلة