كرامة الإنسان بين الشرق والغرب

حسان الأسود
تنصّ المادّة الأولى من الدستور الألماني أن: كرامة الإنسان مصونة، وتضطلع جميع السلطات في الدولة بواجبات احترامها وصونها. بناءً على ذلك، يقرّ الشعب الألماني بحقوق الإنسان غير القابلة للانتقاص أو النزع كقاعدة أساسيّة للتعايش في كلّ مجتمع، وللسلام والعدالة في العالم.
خاطبَ الدستورُ الألماني الذي كُتب في عام 1949 العالمَ من خلال نصوصه الواضحة والصريحة. كان في جانب منه ردّ فعل مبرّرا ومشروعا على ما سبّبته ديكتاتورية هتلر من آلام للألمان، ولغيرهم من الشعوب الأوروبيّة، خلال فترة حكم الحزب النازي، لكنّه كان، في جانب آخر، تماشياً مع المستوى المعرفي والحضاري الذي وصلت إليه شعوب المنطقة، بعد حروبٍ داميةٍ كادت أن تودي بمستقبل البشريّة.
يشعر الألمان بأنّهم غير محصّنين ضدّ التطرّف والعنصريّة إلّا بالقدر الذي يتمسّكون فيه بدستورهم، وبالقدر الذي يقتربون فيه أكثر وأكثر من القيم الإنسانيّة العليا. لذلك نجد أنّ المجتمعات المبنيّة على قدر واسع من المشاركة الشعبيّة، وعلى أسس تتيح لجهات مختلفة ممارسة شكل من الرقابة المسبقة أو اللاحقة على تصرفات السلطة، تكون بالضرورة مجتمعات فاعلة بالشأن العام، ولها تأثيرها الدائم والمستمر على صنّاع القرار.
يحتاج الفهم العميق لبنية عمل المجتمعات وآلياته في الدول الديمقراطيّة، إلى مقاربات كثيرة مختلفة عمّا ألفناه في مجتمعاتنا العربيّة، فالتشاركيّة والفاعليّة المجتمعيّة لا تتأتّى فقط من صندوق الاقتراع، بل من حصيلة نهائيّة لنتاج قنوات كثيرة مختلفة. يشارك الناس في صناعة التغيير وفي حراسة القيم المجتمعيّة والحقوق الدستوريّة من خلال مؤسسات الدولة المختلفة، ومؤسسات المجتمع أيضاً.
تلعب الديمقراطيّة والحرية الفرديّة دوراً بارزاً في تنمية الثقافة المجتمعيّة العامّة، فعلى سبيل

المثال تشغل البرامج الحواريّة مساحة واسعة، وحيّزاً كبيراً من بث القنوات التلفزيونيّة والإذاعية، ومن الصحافة، ولا تقتصر هذه البرامج على سماع آراء الخبراء والمتخصصين في الجوانب المطروحة للنقاش، بل تصل إلى جميع الفئات والشرائح المجتمعيّة. كذلك تنشط جمعيّات المواطنين المختلفة والاتحادات والنقابات والمنظمات الحقوقيّة جنباً إلى جنب مع الأحزاب في صناعة الرأي العام، وبالتالي التشاركيّة المجتمعيّة.
لا ينظر المواطن الألماني أو الفرنسي أو الدنماركي أو السويدي إلى أيّة ظاهرة مجتمعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أنها شأن حكومي خالص لا علاقة له به، بل يعتبر كلّ شاردة وكلّ واردة، شأناً عاماً يمسّ حياته الخاصّة. ويسبب هذا الفهم والإدراك المعرفي في المقابل تغذية عكسيّة ومستدامة لمفهوم الديمقراطيّة والرقابة والشفافية في الحكم. ولا يمكن رد هذا الإحساس العميق بالمواطنة إلى نموّ (وتطوّر) شخصية المواطن وكيانه بمعزل عن مجمل السياق السياسي والحقوقي في هذه المجتمعات.
في المقابل، كانت سياسات أغلب الدول العربيّة، وخصوصا منها المحكومة بالديكتاتوريّات العسكرية، تقوم على جوهرٍ أساس في بنيتها، يستبعد كلّ مشاركةٍ للمجتمع ولتجمّعات المواطنين ومنظماتهم المجتمعية أو حتى كأفراد، وأيّاً كانت مستوياتهم المعرفيّة. انتفاء مبدأ المواطنة من أساسه يجعل السكان مجرّد رعايا، وبالتالي لا يمكن تصوّر مشاركتهم في عمليّات البناء والتطوير والحداثة.
لم تتخلّ الدولة في مجتمعاتنا العربيّة عن مسؤولياتها في إدارة الموارد البشريّة والطبيعيّة

فحسب، ولكنّها منعت المجتمعات من المبادرة للقيام بذلك. مثلا، لم تتطوّر مؤسسات البحث العلمي في أيّة جامعة عربيّة (باستثناء بعض الجامعات في الخليج العربي) منذ الخمسينيّات. ولم تنشأ مراكز دراسات حقيقيّة إلّا في بعض الدول العربيّة، والقلّة القليلة منها مما يساعد في عمليّة النهوض المعرفي لمجتمعات هذه الدول.
غياب دور المجتمع والأفراد في صناعة المستقبل سبّب استعصاءً حقيقيّاً في بنى هذه الدول وآفاق تطورها. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة الدافعة للتحرّكات الشعبيّة المطالبة بالتغيير. وفي تنبّهٍ مبكّرٍ لخطورة هذه الصحوة الشعبيّة على استقرار عروش الديكتاتوريّات الحاكمة، سارعت بعضُ الأنظمة العربيّة إلى الوقوف مباشرة أو مداورة في وجه هذا المدّ القادم من أعمق أعماق ضرورات التطوّر البشري.
المقارنة بين مشاركة الإنسان في صناعة حياته، وصون حقوقه والدفاع عن مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة في أغلب دول أوروبا الغربية، وما يعانيه الإنسان في مجتمعاتنا العربيّة من إقصاء وتهميش ومحاربة، تبيّن أنّ الفرق واسعٌ وكبيرٌ بين الاثنين. يعيش الإنسان في أوروبا الغربيّة عموماً في ظلّ رعاية تامّة وحماية كاملة من مؤسسات الدولة، وتحت ظلّ دستور سيّد وقانون عادل ساري المفعول بحق الجميع من دون أي تفاوت أو إخلال، وهذا يجعله في أعلى مستويات الكرامة البشريّة التي وصلت إليها الإنسانيّة. بينما يعيش المواطن العربي، عموماً مع استثناءات تؤكّد القاعدة، تحت هيمنة أجهزة أمنيّة وعسكريّة قمعيّة وتسلطها، ويفتقر لأية ضمانات دستوريّة تحميه من عسف الديكتاتوريّة، وبالتالي في أدنى درجات الكرامة الإنسانيّة.
سيكون صراع القوى الطامحة إلى التغيير، والساعية إلى ولوج عصر الحداثة في مجتمعاتنا العربيّة كبيراً وحادّاً، لكنه صراعٌ لا بدّ منه ولا غنى عنه، وسيكتب التاريخ يوماً أسطر المجد في صفحات من نهضوا به، ومن وقفوا بجانبه، كما سيكتب كلمات الخزي والعار في صحائف من حاربوه ومن وقفوا في مواجهته.

مقالات ذات صلة