في مخاطر استمرار الحرب

أنور الجمعاوي

حرير- بعد هدنة إنسانية لم تعمّر (سبعة أيّام)، أثمرت، بفضل جهود دبلوماسية قطرية وأميركية ومصرية عالية، الإفراج عن رهائن إسرائيليين وتحرير عشرات الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، عادت حكومة نتنياهو إلى مواصلة عدوانها الغاشم على قطاع غزّة، منتهجة سياسة الأرض المحروقة التي أتت على الحجر والبشر هناك، مخلّفة آلاف القتلى، معظمهم من الأطفال، والنساء، والشيوخ، مُهدّدة حياة الفلسطينيين العُزّل في كلّ مكان، فبعد استهدافهم بطريقة عشوائية في شمال غزّة، انصرفت القوّات الإسرائيلية إلى ملاحقتهم في وسط القطاع وجنوبه بطائراتها الحربية، وصواريخها الزلزالية، وراجماتها المزمجرة، ودبّاباتها الجرّارة، بغرض التغطية على فشلها في استباق عملية طوفان الأقصى (07/10/2023)، ولتأخير محاسبة نتنياهو، وكذا بغاية تحقيق أهداف هلامية من قبيل القضاء على حركة حماس، وتحييد غزّة، واستعادة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية. وهي أهدافٌ لم يتحقق شيء منها بعد شهرين ويزيد من تشكيل حكومة الحرب الإسرائيلية، وانطلاق ما يُعرف بعملية السيوف الحديدية ضدّ سكّان غزّة. والواقع أنّ استمرار الحرب على القطاع المنكوب يحمل طيّه عدّة مخاطر. أهمّها، تعريض حياة المدنيين والرهائن للخطر وتعميق معاناتهم، وتهديد السلم الإقليمي والأمن الدولي، وإنهاك اقتصاد المنطقة والعالم.

ينذر استمرار الحصار الإسرائيلي المطبق على غزّة وقصفها عشوائيا برّا، وبحرا، وجوّا، بكارثة إنسانية كبرى، معظم ضحاياها من المدنيين الذين يعانون ويلات القتل، والتشريد، ونقص المواد الأساسية. وذلك بحسب تقارير، صادرة عن جهات أممية، وحقوقية، وإغاثية موثوقة. وفي هذا السياق، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إنّ سكان قطاع غزة يعيشون “كارثة هائلة”، وإن 80% منهم نزحوا منذ بداية الحرب، وإن المنظومة الصحية انهارت، والجوع ينتشر بشكل مريع في القطاع”، وأفاد مدير برنامج الأغذية العالمي في فلسطين بأنّ “العائلات تشعر باليأس، والجوع، والإرهاق، وتعيش في ملاجئ مكتظّة في ظروف قاسية للغاية”. وذهبت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سيندي ماكين إلى أنه مع “اقتراب فصل الشتاء، تبقى الملاجئ غير آمنة ومكتظّة، ويعاني الناس من نقص المياه النظيفة، ويواجه المدنيون خطر مجاعة قريبا”، باعتبار أنّ إمدادات الغذاء والمياه غير منتظمة، وغير كافية لعموم السكان، وباعتبار أنّ جلّ المطاحن والمخابز معطّلة، بسبب قصفها من جيش الاحتلال، أو بسبب عدم وجود ما يكفي من الوقود والكهرباء والغاز لتشغيلها. وسبق أن أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أن 70% من سكّان غزة يشربون المياه المالحة أو القذرة. وأدّى ذلك عمليّا إلى انتشار أمراض في صفوف أهالي غزّة. فقد أفاد ممثل منظمة الصحّة العالمية في الأراضي الفلسطينية ريتشارد بيبركورن بـ”رصد أكثر من 70 ألف حالة عدوى تنفسّية حادّة وما يربو على 44 ألف حالة إسهال في القطاع المكتظّ بالسكان”. ولا يجد المرضى الرعاية الصحية المناسبة، باعتبار أنّ جلّ المستشفيات في القطاع قد تعطّلت جزئيا أو كلّيا، جرّاء إخلائها أو قصفها من قوّات الاحتلال، وكذا بسبب النقص الحادّ في الوقود والكادر الطبي والمواد العلاجية الأساسية. ومع تدهور الوضع الصحي للفلسطينيين بسبب العدوان الإسرائيلي الأهوج، قالت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، مارغريت هاريس، “سنرى عددًا أكبر من الأشخاص يموتون بسبب الأمراض أكثر مما نراه حتى من القصف”. ومن ثمّ، فقد خيّر الاحتلال المدنيين في غزّة بين أن يموتوا جوعا أو عطشا أو قصفا بقذائفه المجنونة أو أن يموتوا بسبب الأوبئة القاتلة. وفي ذلك عقاب جماعي على المدنيين الفلسطينيين، وتنكيل صارخ بهم وإهدار لحقّهم في الحياة، وهو ما يتعارض مع قواعد الاشتباك في أثناء الحرب ومحامل القانون الإنساني الدولي في هذا الخصوص.

والثابت أنّ استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة يُعرّض الإسرائيليين أنفسهم إلى الخطر، فالحرب تستنزف قوّتهم العسكرية عددا وعُدّة يوميا، وتجعل المدنيين الإسرائيليين والمستوطنين في خوف دائم من ردّات الفعل الفلسطينية. لذلك ترى كثيرين غادروا إسرائيل أو المناطق المحاذية غزّة، فيما لازم آخرون الملاجئ، على نحو أربك حياتهم وأورثهم إحساسا بالخوف وعدم اليقين بالمستقبل. كما تجعل الحرب الدامية على غزّة مصير الرهائن الإسرائيليين لدى الفصائل الفلسطينية محفوفا بالمخاطر، فهم عرضةٌ للموت المحدق بسبب الصدمات النفسية وأُوار المعارك، أو بسبب القصف الإسرائيلي العشوائي على مواقع مختلفة في غزّة. وكان بالإمكان إطلاق سراحهم بالقبول بوقف مستدام لإطلاق النار والانخراط في عملية تفاوضية تؤدّي إلى تبادل الأسرى مع الفلسطينيين.

من الناحية الأمنية، يضع استمرار الحرب على غزّة المنطقة على صفيح ساخن، ويُنذر باشتعال جبهات موازية، من قبيل اتساع دائرة المواجهة المسلّحة بين حزب الله وإسرائيل، واحتمال توتّر جبهة الجولان. وتفيد تقارير موثوقة بأنّ حزب الله شنّ، بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و14 نوفمبر/ تشرين الثاني، زهاء 170 هجوماً من لبنان على أهداف عسكرية إسرائيلية، مستخدما أسلحة مضادة للدبابات، أو مدفعية، أو صواريخ، أو طائراتٍ بدون طيار، ونفذت إسرائيل في الفترة نفسها 327 غارة جوية أو عملية قصف مدفعي مستهدفة مواقع للحزب في جنوب لبنان. وفي سياق متّصل، تصاعدت وتيرة هجمات كتائب مسلحة، غير نظامية، محسوبة على إيران على قواعد أميركية في العراق وسورية. ففي 14 نوفمبر، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن وقوع 28 هجوماً ضد القوات الأميركية في سورية و27 في العراق منذ 18 أكتوبر 2023، فضلا عن تزايد تهديد الحوثيين الأمن المائي في البحر الأحمر من خلال استهدافهم سُفنا تجارية على علاقة كليا أو جزئيا بإسرائيل. وذلك احتجاجا على عدوان الأخيرة على قطاع غزّة. وتكفي الإشارة في هذا الشأن إلى أنّ “القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط” أعلنت في بيان لها أن “يوم 3 ديسمبر 2023 شهد وحده حدوث أربع هجمات على ثلاث سفن تجارية مختلفة كانت تُبحر في المياه الدولية جنوب البحر الأحمر، والسفن الثلاث مرتبطة بـ 14 دولة مختلفة”. واتهمت الحوثيين بشنّ تلك الهجمات. وبناء عليه، يشكل احتدام الحرب الإسرائيلية على غزّة خطرا داهما على المصالح الأميركية في المنطقة، ويهدّد السلم الإقليمي والدولي، وله تداعيات وخيمة على الاقتصاد في المنطقة والعالم لا محالة.

من الناحية الاقتصادية، ينذر تواصل الحرب الإسرائيلية المحمومة على غزّة بارتفاع أسعار الطاقة في منطقة تعدّ نقطة ارتكاز رئيسية لإنتاج النفط والغاز. ومعلوم أنّ ذلك يؤثّر سلبا على المقدرة الشرائية للأُسر والشركات، ويزيد من معدّلات التضخّم، ومن تكاليف إنتاج المواد الأساسية، خصوصا الطاقية والغذائية منها. كما أنّ تواتر منْع بعض السفن المحسوبة على إسرائيل من الإبحار عبر باب المندب أو التضييق عليها أو تغيير وجهتها وضع سلامة الممرات المائية على المحك، وساهم في تعطيل خطوط الإمداد وحركة الشحن والتجارة البيْنية في المنطقة والعالم. وأدّت أجواء الحرب إلى تراجع حركة السياحة نحو إسرائيل وبلدان الشرق الأوسط بسبب انتشار شعور بعدم الأمان في المنطقة. ويفيد مراقبون بأنّ تصاعد الحرب يجعل الاقتصاد الإسرائيلي يعيش أسوأ فتراته منذ 74 عاما، ذلك أنّها تكلّف دولة الاحتلال خسارة 10% من إنتاجها المحلّي، وتجعلها تدفع فاتورة باهظة تقدّر بـ50 مليار دولار، وهو ما يُساهم في استنزاف موازنتها العامة. وتشير تقارير متواترة إلى تراجع الشيكل أمام الدولار بنسبة تخطّت 3% لأول مرة منذ عشر سنوات بسبب استمرار الحرب على غزّة. وفقدت بورصة تل أبيب 25 مليار دولار من قيمتها السوقية بعد الحرب بسبب تراجع أسهم بعض الشركات فيها بنسبة 35%. ورأس المال جبان، ويبحث دائما عن ملاذ آمن. وأفضى استدعاء 350 ألف موظّف للالتحاق بجيش الاحتلال إلى إرباك إنتاجية قطاعات حيوية في إسرائيل (الزراعة، السياحة، الخدمات) فيما أغلقت شركات أبوابها، وبلغت نسبة العاطلين عن العمل زهاء 750 ألفا بعد الحرب، بحسب بعض التقديرات. وما من شكّ في أنّ الحرب ألحقت أضرارا فادحة بالاقتصاد الفلسطيني، في ظلّ قصف آلة الحرب الإسرائيلية البنى التحتية واستهدافها كلّ مرافق الإنتاج في القطاع ومنعها آلاف الفلسطينيين من الالتحاق بمراكز عملهم في إسرائيل. وهو ما يجعلهم أسْرى بطالة قسرية/ قاسية.

ختاما، ما لا يُدرَك بالحرب، يُدركُ بالجلوس إلى طاولة الحوار. لذلك من المهمّ تنشيط الدبلوماسية الدولية لفرض وقف إطلاق النار، وإلزام طرفي الصراع بالبحث عن حلول تفاوضية للأزمة بتجلياتها المختلفة حفاظا على أرواح المدنيين، ولأجل إطلاق سراح الأسرى والرهائن من الجانبيْن، وتحقيق سلم عادل ومستدام في المنطقة. ذلك أنّ استمرار الحرب لن يضمن الأمان لإسرائيل، بل سيزيد من عزلتها وكراهية سياساتها الاستيطانية وممارساتها التعسّفية ضدّ الفلسطينيين، ويشكّل صدمة أخرى لاقتصاديات المنطقة والعالم.

مقالات ذات صلة