تُجَّارُ الوَهْمِ الفلسطيني

لا يمكن للفلسطيني إلا أن يقف مشدوها، وهو يتابع تعليقات بعض قياداته الرسمية على نتيجة الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، والتي عززت مواقع اليمين الصهيوني المتطرف في الخريطة السياسية الإسرائيلية، ويبدو في حكم المؤكد الآن أن زعيم الليكود، بنيامين نتنياهو، في طريقه إلى دورة خامسة في رئاسة الوزراء. أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، أتحفنا بخلاصة مهمة: الإسرائيليون صوتوا بـ”لا للسلام ونعم للاحتلال”! أما الرئيس محمود عباس، فطمأننا بأنه يتابع “كل شيء يحدث في العالم، وبالذات ما يجري عند جيراننا، وكل ما نأمله أن يسيروا في الطريق الصحيح للوصول إلى السلام”.
وجه الدهشة والامتعاض هنا واضح، أفعلا يصدّق عباس وعريقات أنه لو جاءت نتيجة التصويت الإسرائيلي على شكل مخالف، فإن ذلك كان سيصير في مصلحة “السلام”؟ يفاوض عباس وعريقات الإسرائيليين منذ مطلع التسعينيات، رسميا. خاضا مفاوضات مع اليمين ومع اليسار ومع الوسط، وما بينهما من تفريعات وتلوينات، ومع ذلك لم يتحقق “السلام” الموعود. متى صوّت الإسرائيليون “للسلام” حتى يندب عريقات الحظ العاثر؟
في عام 1992، صوت الإسرائيليون لحزب العمل، بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، إسحاق رابين، بعد أن سقطت حكومة الليكودي المتطرّف، إسحاق شامير. وبعيدا عن حقيقة أن رابين هذا مجرم حرب، وصاحب سياسة تكسير أطراف أطفال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فقد استبشر بعض رَبْعِنا به خيرا، وفعلا فقد أهداهم اتفاق أوسلو للحكم الذاتي عام 1993. هل نحتاج إلى أن نشرح حجم الكارثة التي أوقعتها “أوسلو” بقضيتنا؟ يكفي أن نُذَكِّرَ “معسكر السلام” الفلسطيني أنه بلعنة هذا الاتفاق تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما في ذلك شرقي القدس، منذ أواخر عام 1993، من حوالي 110 آلاف مستوطن إلى قرابة 700 ألف مستوطن الآن. وبلعنةٍ من هذا الاتفاق، حشرت إسرائيل السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية في معازل وكانتونات تمثل حوالي 40% من مساحتها الكلية، من دون أن تكون متصلة، في حين استفردت بأكثر من 60% من الأراضي المفتوحة والأكثر خصوبة، بما في ذلك ثرواتها المائية. وبالمناسبة، تلك الأراضي هي ذاتها التي تحدّث نتنياهو عن نيته ضمها إلى الدولة العبرية قبل أيام قليلة.
إذاً، أي أملٍ يرتجيه هؤلاء في أن يسير الإسرائيليون “في الطريق الصحيح للوصول إلى

السلام”، كما يقول عباس، وهو يعلم أن لا “حمامة السلام” شيمون بيريس أعطاهم شيئا عام 1996، عندما كان رئيسا للوزراء، ولا “المعتدل”، إيهود باراك، قبل أن يلتزم بالقرارات الأممية، في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000؟ يُقال الشيء نفسه عن حزب كاديما، وإيهود أولمرت، ثمَّ تسيفي ليفيني. حتى يوسي بيلين، الشخصية النموذجية “للسلام” في أعين من هم مثل عباس، سحق ما تبقى من فتات الحقوق الفلسطينية، وخصوصا حق العودة، في ما عرف بتفاهمات بيلين- أبو مازن عام 1995.
قد يقول بعضهم إن ذاك تاريخ قد انقضى، ونحن أبناء اليوم لا الأمس. حسناً، ولكن ماذا نقول في أبناء اليوم ممن صاغوا الأمس، وأحدثوا كوارثه، ولا يريدون أن يتعلموا إلى اليوم! أيعقل أنهم لا يرون ما هو أوضح من قرص الشمس؟ إنهم يعلمون أن “صفقة القرن” يتم إنفاذها عملياً على الأرض، في حين يستهزئ الأميركيون بالفلسطينيين والعرب، وهم يرونهم يتقلبون على الجمر انتظارا للإعلان عنها! القدس أزيلت عن الطاولة باعتبارها “عقبة” في طريق “السلام”، هكذا قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عندما أعلن الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل أواخر عام 2017، ثمَّ نقل السفارة الأميركية إليها العام الماضي. وكذلك، اللاجئون، تمت إزالتهم عن الطاولة بوصفهم “عقبة” أخرى العام الماضي، فاللاجئ، حسب إدارة ترامب، هو من كان حياً وأخرج مادياً من أرضه عام 1948. أما أولاده وأحفاده فلا. وحتى يصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى اتفاق، يتضمن “حق العودة” لهؤلاء، حينها لن يكون تبقّى منهم أحد. إذاً، حلت القضية!
لكن الأمور لا تقف هنا، فحل الدولتين ليس بالضرورة هو الصيغة الأنسب أميركيا. هكذا قال ترامب من قبل، وهذا ما كرّره وزير خارجيته، مايك بومبيو، قبل أيام قليلة. وإذا ما أقدم نتنياهو على ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، كما وعد، فإنه سيجد في ترامب حليفا داعما ومؤيدا، وهو الذي اعتبر أن فوز تحالفه في الانتخابات أخيرا يعني “خطوات جيدة للسلام”! وكما أسبغ ترامب شرعية الغاب على قراري ضم القدس والجولان السوري، فإن لا شيء يمنعه من فعل الأمر نفسه مع الضفة الغربية.
كل هذا تعلمه جماعتنا، ومع ذلك ما زالوا يعيشون على الأماني والأوهام، ويريدوننا أن نعيشها معهم. “إذا قبلوا (الإسرائيليون) بالسير حسب الشرعية الدولية، فأيدينا ستبقى ممدودة من أجل الوصول إلى السلام، وإذا لم يرغبوا فنحن هنا باقون، نحن هنا صامدون، نحن هنا نطالب بحقنا حتى نحصل عليه”. هكذا قال عباس. هل تبقّى شيء من الشرعية الدولية التي تقف عاجزة،

كما السلطة الفلسطينية، أمام إسرائيل والولايات المتحدة؟ لقد ضاعت قضيتنا، ومزّق شعبنا، وصفيت حقوقنا، ونحن لا نزال ننتظر أن يصوت الإسرائيليون “للسلام”. أبعد من هذا كله، لم يفقه بائعو الوهم بيننا أنه حتى تجد شريكا “للسلام” في الدولة العبرية فإنه ينبغي أن تأتي به من خارجها. إسرائيل مشروع أسس على العدوان، ولا يمكن أن يجنح إلى “السلام”، لأن في ذلك نهاية لمبرّر وجوده.
أعمل الآن على ورقة حول السياسة الأميركية نحو قطاع غزة منذ عام 2007، أي السنة التي وقع فيها الانقسام بين الضفة الغربية والقطاع، وبين حركتي فتح وحماس. أعادت الورقة تذكيري بوثائق إدارة جورج بوش الابن، التي تمَّ تسريبها عام 2008، وتتعلق بالأحداث التي قادت إلى صدام الحركتين، وانقسام الإقليمين الفلسطينيين المحتلين. تجد في تلك الوثائق كيف تلاعبت إدارة بوش بعباس وسلطته وحركة فتح، لافتعال “حرب أهلية فلسطينية” لإسقاط “حماس” من الحكم، بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996. لم يثر دهشتي حجم التحريض الأميركي، والمساعدات المالية والعسكرية التي قدمتها إدارة بوش، أو سهلت وصولها إلى أيدي أجهزة أمن السلطة “للانقلاب” على حركة حماس، كما تقول الوثائق، بقدر ما أثار دهشتي حجم تجاوب السلطة الفلسطينية، وكثيرين من قادة “فتح” مع تلك المؤامرة. بقية القصة معروفة أين انتهينا اليوم. الكارثة، أنها مستمرة.
أما آن الأوان أن يتوقف هؤلاء عن التعلق بأستار الوهم والخداع؟ فلا يسار ولا يمين ولا وسط إسرائيلي سيعطينا “السلام”، ولا إدارة ديمقراطية أو جمهورية ستنصفنا. و”صفعة القرن”، كما يصفها عباس، تسير باتجاه نهايتها، وقد تسبق نهايته مشهدها الأخير، فلماذا لا يختم حياته بالرهان مرة واحدة على شعبه، ويعيد جبْر ما انكسر، لعل الله يغفر له ويغفر له شعبه؟ أعيدوا الأمر إلى أصحابه، فلقد فشلتم، وما زلتم تصرّون على الفشل، فاتركوا الأمر لجيلٍ جديدٍ يتفق على إعادة إطلاق مشروعه الوطني للتحرّر وتحديد أدوات ذلك.

مقالات ذات صلة