الحرب على الأوكرانيين .. وعلى الفلسطينيين معا

محمود الريماوي

حرير- يُكثر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحديث عن “القانون الدولي”. وبينما ينسب إليه أن مضامين هذا القانون غير واضحة، فإن تصريحاته الصريحة تتحدّث من جهة عن التزام حكومة بلاده بهذا القانون ، وعن انتهاكات غربية، وخصوصا أميركية، ففي جلسة عامة لمنتدى اقتصادي أقيم قبل أيام في مدينة فلاديفوستوك الروسية، خاطب بوتين المؤتمرين “إن القانون الدولي يُداس عليه دائما، فالحرب في العراق والأعمال في يوغوسلافيا وقصف بلغراد لم تصاحبها عقوبات الأمم المتحدة، واليوم يلقى اللوم على موسكو”. مؤكّدا رفضه اتهام روسيا بانتهاك مبادئ القانون الدولي. والمقصود بالقانون هو ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وبخاصة التي تكون الدول الكبرى طرفا فيها، مثل معاهدات الحد من أسلحة الدمار الشامل.

وقبل 15 عاما، كان رئيس الاتحاد الروسي يخاطب مؤتمر الأمن في ميونخ، بالقول: لا أحد يستطيع الاختباء خلف القانون الدولي، كما لو أنه خلف جدار حجري”. وهو ما أثار الانطباع بأن الرجل يؤمن بتكييف القانون الدولي، شأنه شأنه غيره من قادة الدول الكبيرة. فضلا عن أن القانون الدولي ليس بصلابة جدار حجري، بل هو أقل من ذلك. ومؤدّى أحاديث وفيرة وفي مناسبات مختلفة، وعلى منابر شتى، أن ثمّة تفاسير عديدة لقواعد القانون الدولي، وأن الكل يفسّره على هواه ووفق مصالحه، وروسيا جزء من هذا العالم. والغاية هنا ليست في الدعوة إلى احترام قواعد القانون الدولي، واحتكام الجميع إليها، بما فيهم روسيا، إذ إن دائرة اهتمام الزعيم الروسي الأولى تتركّز على رفض عالم أحادي القطب، يفرض إملاءاته على الآخرين، فذلك بالنسبة إليه “ليس بالأمر غير المقبول فحسب، بل والمستحيل أيضا”، وهو ما يردّده بصيغ مختلفة. وقد ذهب، في أحد تصاريحه، إلى القول إن التطورات العسكرية في أوكرانيا منذ 24 شباط الماضي وضعت حدا نهائيا لمفهوم العالم أحادي القطب، وأدّت إلى إطلاق عالم جديد.

رسالة الكرملين في هذا الصدد غير خافية، وهي الالتزام بمصالح روسيا ووضعها فوق كل اعتبار، وأن نصيب الغرب، وبالذات الولايات المتحدة، من انتهاك القانون الدولي كبير، وأن على من يرى القشّة في عيون الآخرين أن يرى، أولا، الخشبة في عينيه هو. ومن الطريف أن بوتين يضع تدخّلات واشنطن التي أنهت حرب البلقان في تسعينات القرن الماضي في خانة انتهاك القانون الدولي، بما في ذلك إنقاذ مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو من حرب الإبادة على يد الزعامات الصربية، وتمكين كرواتيا من الاستقلال. بينما تقع قائمة الانتهاكات الأميركية في أمكنة أخرى في الحرب على العراق التي لم تنل غطاءً من الأمم المتحدة، وهو ما يرددّه بوتين دائما، علاوة على دعم أنظمة ديكتاتورية في أميركا الجنوبية وأميركا الوسطى وأماكن أخرى من عالمنا. وقبل ذلك في الدعم الأميركي غير المحدود لخروج الدولة الإسرائيلية الدائم والمنهجي على القانون الدولي، وتشجيعها هذه الدولة على تقويض عملية السلام الشرق أوسطية، وهو ما يتوالى فصولا، وهو ما لا يتطرّق إليه بوتين أبدا الحريص على علاقاته الثابتة والحذرة مع تل أبيب برغم تغير الحكومات فيها. بينما يهجس بإعادة الاتحاد اليوغوسلافي، على غرار ابتعاث الاتحاد السوفياتي بصيغة جديدة، مع منح جمهورية الصرب كل الدعم لتتصدّر هذا الاتحاد المفترض، على حساب الكيانات الناشئة مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو.

وإذ يتكئ على سجل الولايات المتحدة في الانتهاكات، وهو سجل صحيح، وقد أسّس لانتهاكات لاحقة من دول عديدة، وتلك مسؤولية تاريخية على واشنطن، فإن الزعيم الروسي لا ينشغل كثيرا بإظهار التزام بلاده بأحكام القانون الدولي وقواعده، بل لسان حاله أن الآخرين لطالما انتهكوا القانون، فلماذا التدقيق في ما تفعله موسكو في غروزني وجورجيا والقرم وسورية، وأخيرا في أوكرانيا؟

وفي واقع الحال، تكشف السياسات الفعلية حقيقة الموقف من أحكام القانون الدولي الذي يمنح الالتزام به درجة أعلى يتقدّم بها على القوانين المحلية أو الداخلية لكل بلد. ولنا أن نلاحظ كيف تشدّد موسكو على ما تعتبره مبدأ سيادة الدول، حين يتعلق الأمر بتجاوزات جسيمة للقانون الدولي، كما هو الموقف مما جرى في ميانمار باقتلاع أقلية الروهينغا، ثم إزاء الانقلاب العسكري في هذا البلد، إذ إن مفهوم السيادة لدى موسكو يكاد ينحصر بسلطة الأنظمة المطلقة على شعوبها. ولهذا، وقفت ضد ما تسميها الثورات البرتقالية التي أطاحت أنظمة المنظومة الاشتراكية، بل إن سيرغي لافروف، وزير خارجية بوتين، قال ذات مرّة إن بلاده ضد نشوب أي ثورات في هذا البلد، وقد لوحظ كيف أن الكرملين اعتبر موجة الربيع العربي في منزلة ثورات برتقالية، واتخذ مواقف مناوئة لهذه الموجة.

وحصيلة ذلك أن موسكو، ومنذ نحو ثلاثة عقود، تخطو الخطى التي سبق لواشنطن أن اتبعتها في إسناد الأنظمة هنا وهناك، ما دامت هذه الأنظمة تقف مع واشنطن، وتيسّر لها مواطئ قدم ونفوذ. وبينما تتراجع واشنطن، كما فعلت في أفغانستان والعراق، من غير أن تتراجع عن خطيئتها في دعم الاحتلال الإسرائيلي مثلا، فإن موسكو ترى في هذه التطوّرات ظرفا مثاليا للتمدّد وبسط النفوذ، من وراء ظهر الشعوب، وكأن التعدّدية القطبية التي تلحّ عليها موسكو تتمثل في تعدّد مراكز الهيمنة، والتسابق على إنكار حقوق الشعوب، وبسط النفوذ بكل السبل المتيسرة، حتى أن موسكو أنشأت فرقة فاغنر للتدخل العسكري، على غرار المنظمة الأميركية “بلاك ووتر”، وبعد أن بدا أن واشنطن تطوي صفحة هذه المنظمة التي ارتكبت انتهاكاتٍ جسيمة في العراق.

وبينما تواصل موسكو “عمليتها العسكرية الخاصة” في أراضي أوكرانيا وأجوائها ومياهها، تخوض تل أبيب، وقبل الحرب على أوكرانيا، حرباً مسلحة مفتوحة وشاملة على الوجود الفلسطيني في الأراضي المحتلة، من غير أن تحرّك واشنطن ساكناً سوى ترديدها معزوفة حلّ الدولتين، في وقتٍ تدعم فيه، بغير حدود وباندفاعٍ لا ينقطع، من يقوّضون حلّ الدولتين، ويرتكبون جرائم الحرب يوميا. وواقع الحال أن واشنطن، بسياستها المريضة هذه، تقدّم ذخيرة دعائية ومسوّغات جاهزة وحوافز قوية لكل انتهاكات حقوق الإنسان والشعوب، فالحرب على الأوكرانيين في ديارهم هي الوجه الآخر للحرب على الفلسطينيين في وطنهم.

 

مقالات ذات صلة