انفجار عقل إسرائيل

عبد الحليم قنديل

حرير- سحب إسرائيل للفرقة (36) من غزة لن يكون الخروج الأخير، فمع بدء التوغل الإسرائيلي بعد عشرين يوما من هجوم طوفان الأقصى المزلزل، ومع الاندفاع الجنوني لتدمير كل غزة بشرا وحجرا، تواصلت زيادة عديد قوات الغزو، إلى أن بلغت نحو ست فرق، وبما يزيد على 120 ألف جندي، أغلبهم من لواءات النخبة، وتراجع العدد اليوم إلى النصف، بعد تضاعف الخسائر البشرية لجيش الاحتلال، وفشله المتراكم في شمال القطاع ومخيمات الوسط، وتعثره المتواصل في خان يونس عاصمة الجنوب، على الرغم من محارق الإبادة الجماعية، التي راح ضحيتها لليوم نحو مئة ألف فلسطيني، بين شهداء وجرحى ومفقودين تحت الأنقاض، ونزوح ثلثي سكان غزة، وتهجير أكثر من مليون فلسطيني إلى رفح في جنوب الجنوب.

والمفارقة المدهشة في كل ما جرى ويجري، أن الشعب الفلسطيني الذي ترك وحيدا من الأقربين والأبعدين، إلا من قليل، هو الذي صنع الفارق بصموده الأسطوري، وصنعته فصائل المقاومة بإبداعها القتالي المذهل، وصار العدو الأمريكي الإسرائيلي في وضع المهزوم بالحرب التي تطوي شهرها الرابع، فلم يتحقق أي هدف معلن للعدوان الوحشي البربري الهمجي، فلا هو قادر على اجتثاث حماس، ولا حتى إضعافها، ولا هو قادر على تحرير أسراه بالقوة المسلحة، ولا هو فاز في حرب الإعلام والمعارك النفسية، على الرغم من الفوارق المهولة في الأسلحة والإمكانات والتكنولوجيا الأحدث لصالح الغزاة، التي لم تنجز سوى الآلاف من مجازر الإبادة الجماعية للمدنيين الأبرياء العزل، وبالذات من الأطفال والرضع والنساء، ومن دون أن تظهر لها كرامات في ملاحم القتال وجها لوجه، مع مقاومة فريدة عنيدة قادرة، تصنع أسلحتها بأيديها، وتبدي عقيدة قتال غاية في التفوق، وتصور كثيرا من معاركها بالصوت والصورة في فيديوهات عظيمة الإتقان، إضافة لأشرطة لأسرى العدو، تكثف الضغط النفسي والشعبي على حكومتي إسرائيل في تل أبيب وواشنطن، وتبدد آمالهم في خلق أي انطباع بنصر قائم أو محتمل.

فالمقاومة نفذت خطتها الهجومية المحكمة صباح السابع من أكتوبر الماضي، وثبت أنها أعدت وتنفذ خطة دفاعية فعالة لصد التوغل البري الذي توقعته مسبقا، بينما يعاني العدو الإسرائيلي من تخبط، ومن انفجار عصبي في المخ، ومن انفجار للعقل والخطط الموضوعة، فقد كان تصور العدو، أنه ما هي إلا أيام أو أسابيع قليلة، وينتهي كل شيء، وقد استخدموا كل ما في الترسانة العسكرية الأمريكية الإسرائيلية، ومن دون أن يتحقق لهم شيء مما رغبوا فيه، بل ضاعوا في متاهة موحلة، دفعتهم لتغيير الخطط العسكرية يوما بيوم، وقد كان الظن دائما، أن إسرائيل تعرف ما تريد، وأن استنادها إلى الجدار الغربي الأمريكي، يكفل لها النصر الحاسم في حروب خاطفة، لكن صناع العقل الإسرائيلي فوجئوا وصدموا بما جرى، فهذه أطول حرب عربية إسرائيلية متصلة أيامها، ولا يمثل الطرف العربي فيها سوى فصائل المقاومة الفلسطينية، وقد أرادوها حربا تستنفد طاقة الصمود الفلسطيني الشعبي، وكي الوعي الفلسطيني بدفعه إلى نكبة جديدة، وتهجير الفلسطينيين إلى خارج أراضيهم، وعلى نحو ما جرى في نكبة 1948، وفات صناع العقل الإسرائيلي الأمريكي، أن الأوضاع تتغير بالجملة، وأن الشعب الفلسطيني وعى من زمن درس النكبة الأولى، وعرف أن خروجه من أرضه المقدسة سيكون بلا عودة، وأن العدو ليس قوة لا يمكن أن تقهر أو تنهزم، فلم تنتصر إسرائيل أبدا في أي حرب لحقت عدوان 1967، لا في حرب الاستنزاف على جبهة مصر، ولا في حرب 1973، ولا في حرب لبنان وجنوبه، ولا في حروب متعددة ضد غزة ذاتها، وكان تراكم الوعي الفلسطيني الجديد، مع تضاعف عدد السكان العرب في فلسطين التاريخية بكاملها، وتجاوزه لأعداد اليهود المجلوبين للاستيطان، وهروبهم بالهجرة العكسية، كان لذلك كله أثره المحسوس في انقلابات الصورة، خصوصا مع الوعي المضاف لدى أجيال الفلسطينيين الجديدة، وإدراكها المتزايد لحقائق العصر، وإبداعها الكفاحي المستند إلى بيئة هي الأكثر تعليما في كل العالم العربي، وضراوة المحن التي خلقتها خلقا مقتدرا، وانخراط الكثير منها في موجة المقاومة من نوع مختلف، التي تطورت من مقارعة أعلى قيمة تكنولوجية يحوزها العدو بالحس الاستشهادي الذي هو أعلى قيمة إنسانية، وباكتساب تكنولوجيا سلاح متحدية لتكنولوجيا العدو، وهكذا قلصت المقاومة الجديدة من فوارق التفوق التكنولوجي للعدو، مع شفع عقيدة القتال ذات الطابع الاستشهادي بفنون مبدعة، إلى أن تحولت المقاومة الجديدة إلى قوة لا تقهر، زادت معدلات الثقة بنفسها في اطراد، بلغ الذروة في إثبات المقدرة على الخداع الاستراتيجي وإذلال جيش العدو في هجوم طوفان الأقصى، واختراق تحصيناته التكنولوجية الفائقة الامتياز، وسحبه إلى متاهات الموت في غزة، التي بدا فيها العدو مختالا مزهوا بعتاده وعديده فوق سطح الأرض، بينما المقاومة تظهر له فجأة كالأشباح من حيث لا يحتسب، ومن مدن أنفاق تحت الأرض، جرى حفرها بإعجاز هندسي بارع، وكلما ظن العدو أنه عرف السر، وهدم أنفاقا وجد فتحاتها، زادت الألغاز غموضا، بما دفع صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، إلى إشهار إخفاق الأمريكيين والإسرائيليين في اكتشاف خرائط الأنفاق الفلسطينية، رغم البحث الذي لم ينقطع يوما ولا لحظة، وباستخدام أرقى وسائل التكنولوجيا الحربية، وقد كانت إسرائيل ـ ومعها أمريكا ـ تقدر أن الأنفاق ممتدة بطول 500 كيلومتر تحت الأرض أو تزيد قليلا، بينما التقديرات اليوم، تصل بطول شبكات الأنفاق المتشعبة إلى 720 كيلومترا، وهو ما يجعل حروب العدو غير منتهية، ربما حتى لو استمر القتال لألف يوم، ويزيد من حالة الهياج العصبي وفوات العقل لدى قادة العدو، فقد بدؤوا حربا لا يعرفون آخرتها بالضبط ولا بالتقريب، وتبددت حساباتهم جميعا، وفي المأزق الراهن، تحاول حكومة إسرائيل في واشنطن بغير جدوى منظورة حتى تاريخه، أن تكون أكثر تعقلا، وأن تنصح حكومة إسرائيل في تل أبيب بالانسحاب التدريجي من الحرب، بينما تبدو حكومة بنيامين نتنياهو عالقة في المتاهة، وتتأجج الخلافات فيها بين المستوى السياسي والمستوى العسكري، فنتنياهو وصحبه الأشد تطرفا وإجراما، من نوع إتمار بن غفير وبتسلئيل سموتيريتش وميري ريجيف وغيرهم، يحسون بدنو أجل حكومتهم مع الهزيمة الوشيكة، ويعرفون أن الهزيمة يتيمة، ويقذفون بكرة النار فوق رأس جيش الاحتلال وقادته، ويستفزون وزير الحرب يوآف غالانت، ويسخرون من رئيس الأركان الجنرال هيرتسس هاليفس، والأخير يحملهم المسؤولية من الآن، ويقول؛ إن المستوى السياسي لم يحدد أهدافا للحرب يمكن بلوغها، وإن ما سماه إنجازات عسكرية تضيع بسبب فوضى الحكومة، بينما مجلس الحرب الموسع الذي شكله نتنياهو، وانضم إليه حزب المعسكر الرسمي، يعاني هو الآخر من انشقاقات متزايدة، ويخرج قادة المعسكر المنضم، عن طوع نتنياهو ووزراء حكومته الجهلة، ويذهبون للمشاركة علنا في المظاهرات التي تطلب إقالة نتنياهو، سواء بسبب التعثر في عقد صفقات إطلاق الأسرى مع حماس، أو تجاوبا مع رغبة المعارضة في إجراء انتخابات مبكرة، وفي ما يبدو قائد حزب المعسكر بيني غانتس متحفظا في تقييم نتائج الحرب، وداعيا إلى جعل هدف استعادة الأسرى أو المحتجزين في الصدارة، وأيا ما كان الثمن الذي يتعين على إسرائيل دفعه، في إشارة إلى خطة حماس باشتراط وقف العدوان قبل استئناف مفاوضات الأسرى، بينما بدا رفاق غانتس أكثر صراحة وتسليما بخسارة إسرائيل، على طريقة الجنرال أيزنكوت، الذي كان رئيسا للأركان، وقتل ابنه الضابط في الحرب الجارية، وهو ما يلقى دعما علنيا من جدعون ساعر، الذي كان تمرد على نتنياهو، وخرج من حزب الليكود قبل سنوات، أضف إلى ذلك عريضة لافتة، وقعها 176 قائدا عسكريا إسرائيليا سابقا، كلهم يدعون إلى وقف نزيف الجيش، وعقد هدنة طويلة مستديمة لحين مراجعة كل ما جرى ويجري، بينما يندفع نتنياهو كالثور معصوب العينين إلى حتفه في مزابل التاريخ، ويتحدى الكل بما في ذلك محكمة العدل الدولية، فهو يدرك أن نهاية الحرب هي نهايته، وتخيفه زيادة أسهم وشعبية غانتس وصحبه في التجمع الإسرائيلي، فقد كان يحلم ولا يزال بوهم القضاء على حماس وكتائب المقاومة، بينما تبدو النتيجة المرجحة للحرب، هي القضاء على نتنياهو شخصيا، وهو الذي كان ولا يزال رئيس وزراء العدو الأطول عمرا في منصبه، والقاعد على تلالها حتى خرابها.

مقالات ذات صلة