هتلر.. ولحظة “التباك تاريخي” تتكرر الآن

هشام الحمامي

حرير- بسطاء المثقفين.. يتهمون الديمقراطية التي هي صلب السياسة والسلطة.. بأخطر “نقطة ضعف” فيها.. وهم الناس.. الذين هم صلب الديمقراطية، وحكم هؤلاء الناس!.. سيضربون الأمثال هنا بنجاح هتلر والحزب النازي في الانتخابات الديمقراطية التي أتت بهم إلى السلطة سنة 1932م.. وكلنا نعرف براكين الدمار التي ترتبت على ذلك.. وسواء كان ذلك لؤما أو سذاجة منهم.. سيكون علينا أن نمشي خلفهم ونلقي باللوم على “الديمقراطية”، بل والعملية الانتخابية برمتها، لا على الواقع الزمني والتاريخي وما يحويه من أفكار وبشر هذا الزمن وهذا التاريخ.. وسيذهبون إلى نتيجة مفرطة في البساطة، أنه كان من الضروري بل والحتمي وقتها أن ينقلب المجتمع على الديمقراطية ونتيجتها إذا أتت بمثل هتلر..! وكأن الأمور ستسير بعد ذلك على هوى هواهم.. ولن تفتح الأبواب واسعة لمن هو أسوأ من هتلر ونازيي هتلر..

***

يوم 19 آب/ أغسطس كان ذكرى مجيء أدولف هتلر (ت: 1945م) إلى الرئاسة الألمانية سنة 1933م، وهو حدث -تاريخي بحق- يمثل الكثير، وما هو أكثر من الكثير، للأمة الألمانية وأوروبا والعالم كله، بحساب ما أحدثه هذا المجيء من أحداث مهولة، ستترتب عليها أحداث أكثر هولا.

لكن علينا أولا هنا أن ننتبه إلى حشر قصة الديمقراطية والانتخابات في هذه الزاوية الحادة، بغرض استخلاص السلطة والحكم خالصا للأيادي الخبيثة.

هذا ليس نقصا وعوارا فقط في المعرفة والفهم.. هذا خطأ فاحش بالمعلومات العامة.. وهو كذب بواح.. وأبشع ما في هذه الأنواع من “الأكاذيب” أن الكذاب نفسه يعرف أنه يخادع ويخاتل.. ويخفي الحقيقة عمدا.

مجيء هتلر كانت ضمن حالة تطور طبيعي لمكونات وأحداث فكرية وسياسية هامة وطويلة أنتجت من ضمن ما أنتجت؛ مجيء هتلر والحزب النازي. وسيذكر لنا المفكر الهندي الأمريكي بانكاج ميشرا في كتابه المهم “زمن الغضب” (سلسلة عالم المعرفة 505)؛ تفاصيل مهمة للغاية، ليس عن مجيء هتلر فقط، بل عن هذا المخاض الضخم الفلسفي والديني والعدمي والعنصري، الذي اجتاح أوروبا كلها طولا وعرضا وارتفاعا وعمقا.. طوال القرنين اللذين سبقا مجيء هتلر وغير هتلر..

* * *

الفكر النازي إذن لم يأت في لحظة إلهام مباغتة، هبطت على هتلر؛ الذي جاءت به أغلبية كبيرة، كانت تؤمن بمثل ما يؤمن به من أفكار، وكان يتم التأسيس لها عميقا وطويلا من زمن طويل، ولم تكن مجرد أفكار شعبوية خفيفة، كالتي يتحدث بها ترامب أو اليمين الأوروبي الآن.. بل كانت أفكارا تستند لفلسفة يقف وراءها فلاسفة ومفكرون كبار بحجم إيمانويل كانط، وفريدريك شيلر، وآرثر شوبنهاور، وفريدريك هيجل، ويوهان فيخته، وفريدريك نيتشه، والموسيقار ريتشارد فاجنر.. الخ.. ولك أن تتخيل هذه الأسماء وحجمها، ودورها الرهيب في حركة التاريخ الإنساني كله، وليس الأوروبي فقط..

فيخته وشوبنهاور ونيتشه سيوصفون بأنهم “السلطة الفلسفية الثلاثية” للاشتراكية الوطنية، التي هي جوهر النازية.. ويُحكى أن هتلر زار أخت نيتشه التي أعطته العصا التي كان يستخدمها أخوها في آخر أيامه كتذكار..

الموسيقار الشهير ريتشارد فاجنر كان له تأثير هائل عليه، وعلى كل إيحاءاته وخيالاته التي كانت إلهاما عريضا للأفكار التي وجدت لها مجالا واسعا في “الدماغ الألماني” الشعبي والثقافي والسياسي، صحيح أن هذه الأفكار تم فهمها واستيعابها بعقل وفهم وقت قراءتها، لا وقت كتابتها، لكنها كانت في النهاية أفكارا وفلسفات قوية، أضفت مشروعيه كاملة لمشروع يتمدد بسرعة رهيبة في الواقع.

* * *

لكن ذلك كله شيء، والحرب العالمية الأولى، وما أنتجته تلك الحرب على “الأمة الألمانية” ماديا ونفسيا وفكريا واقتصاديا.. الخ، شيء آخر تماما.. وبإمكان أي إنسان أن يستنتج ببساطه أن كل هذه الأفكار والفلسفات ما كانت لتغادر “البهو الأكاديمي” إلى دنيا السياسة والحرب، لو لم تنته الحرب العالمية الأولى إلى ما انتهت إليه من نتيجة..

***

بعد حصوله على الجنسية الألمانية (هتلر نمساوي) وترشحه للانتخابات عام 1932م وعقده لاتفاق مرعب مع “الدولة العميقة”، التي كانت في قبضة ماردين ضخمين حائرين قلقين: رجال الصناعة وجنرالات الجيش، والذين كانوا قد ضاقوا بالإنهاكات المالية، وتعويضات الحرب باتفاقية فرساي التي وقعتها ألمانيا المهزومة.. امتلك هتلر في راحة يده أسرار الدولة، ومفتاح دولابها الضخم..

اتفاقية فرساي التي كٌتبت عقب الحرب الأولى.. لم تكن مجرد “وثيقة” لترتيبات حالة ما بعد حرب، لفريقين أحدهما منتصر والآخر منهزم كما يحدث دائما في التاريخ، لكنها كانت بالأساس “وثيقة إذلال”.. وهدم ومحو كيان للأمة الألمانية. تفاصيل مرعبة تذكرها نصوص الوثيقة.. ولا أدري كيف تصور هؤلاء الساسة العظام وقتها، قيام “مستقبل” مستقر على أساسها، وأنت هنا تتحدث عن أسماء غير عادية في التواريخ والأزمان الحديثة كلها، أسماء بحجم جورج كليمنصو/ فرنسا، وديفيد لويد/ بريطانيا، وتوماس ويلسون/ أمريكا.

وصدق من قال: إن الحرب العالمية الثانية (أكثر الصراعات دموية في التاريخ ، مع 70 مليون قتيل) بدأت يوم انتهاء الحرب العالمية الأولى..

* * *

ستنتهي الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا مرة ثانية، وستكون أوروبا قد استوعبت تماما “الدرس الرهيب”، وأوقفت هذا الهراء التاريخي الأهطل المعروف بـ”إذلال المهزوم”.. ولم تفعلها، ودخلت أوروبا بعدها الحقبة الجميلة، لتغني نشيدها الاتحادي “نشيد الفرح” من أشعار شيلر وألحان بيتهوفن، والاثنان ألمانيان!..

* * *

لكننا اليوم، سنجد أنفسنا أمام التاريخ حين ينتظر ويتحير ويقف، مثلما وقفت “أليس” على مفارق الطرق وهي تسأل القط الشهير “شيشاير” عن أي الطرق تختار؟ وحين عرف أنها لا تعرف إلى أين هي ذاهبة نصحها تلك النصيحة الملتبسة المناسبة تماما لها ولحالها: “اختاري أي طريق.”، كما حكى لنا عالم الرياضيات الإنجليزي المعروف لويس كارول (ت: 1898م) في قصته البديعة “أليس في بلاد العجائب”..

نقول ذلك ونحن نسمع لبعض الأصوات الآن، والتي ما زالت مسموعة أكثر من غيرها في الحرب الروسية-الأوكرانية.. نسمع أصوات الاستمرار في الحرب حتى “إذلال” روسيا..

إنها لحظة من تلك اللحظات الهامة في التاريخ التي تحدث فيها حالة “التباك”.. والعهدة هنا في اللفظ على شاعر الناي والشجن جبران خليل جبران (ت: 1931م) في مسرحية “إرم ذات العماد”، وهو يعني “الالتباس والاختلاط والحيرة”.

* * *

وهي سمة واضحة في “الحركة التاريخية” التي يشهدها كوكب الأرض الآن.. وسنسمع أحد دهاقنة التاريخ الحديث هنري كيسنجر (100 سنة) الذي حذر من تكرار الانزلاق العالمي الذي حدث سنة 1914م عندما انزلقت القوى الكبرى دون قصد إلى حرب عالمية.. وحذر من أن تصبح حربا “ضد روسيا” نفسها، وطالب بإعطاء روسيا فرصة للانضمام مجددا إلى النظام الدولي.

* * *

ستظل شخصية هتلر وأفكاره ورجاله موجودة في كل وقت وحين، إذا ما توافرت عوامل ظهورها واكتمالها على نحو ما توافرت لهتلر وحزبه.

لن يعدم التاريخ شخصا مثله تملؤه المرارة والهزيمة والإحساس بالذل والرغبة الثأرية في الانتقام.. وسرعان ما سيجد أيديولوجيات وفلسفات تؤسس عميقا وصلبا لما تكون لديه من شعور، فتصنع منه واقعا فكريا وسياسيا وحركيا وتنظيميا.. ثم يكون على الإنسانية كلها أن تدفع الثمن غاليا.. دما ونفوسا، حضارة وعمرانا.. مثلما حدث لها على أيدي الغرب مرتين.

مقالات ذات صلة