المقاومة بعد الانتفاضات الفلسطينية

حلمي الأسمر

حرير- تشهد فلسطين هذه الأيام نوعا جديدا من المقاومة، تضع أجهزة الأمن الصهيونية في حالة فريدة من التأهب والاستعداد الدائم المنهك والمتعَب على نحو غير مسبوق. ولم يتم بعد الاتفاق على توصيف هذا النوع من المقاومة، كما هو شأن مصطلح “الانتفاضة” الذي ولد في فلسطين. ولو قدّرت لنا العودة لجذر هذا المصطلح لوجدناه يعني لغة “التحرّك” فقط، فقد جاء في معجم لسان العرب لابن منظور: نفضت الثوب والشجر إذا حرّكته لينتفض. وفي المعجم الوسيط: انتفض الشيء: تحرّك واضطرب، وفلان ينتفض من الرعدة. وهذا يعني أن الانتفاضة، من فعل انتفض، وهي حركة واضطراب. وقديماً وصف أحد الشعراء رعدته عندما يذكر حبيبته، فقال: وإنّي لتعروني لذكراك هزّةٌ/ كما انتفضَ العصفور بلّله القطر.

وفي المعنى الاصطلاحي، هي ذلك التحرّك الشّعبي الهائل، الذي انطلق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 1987، وامتد عبر كل أرض فلسطين، لمواجهة القوة الصهيونية المسلحة. ووفق بعض المصادر، ورد أول استعمال لهذا المصطلح في أول بيان صدر عن حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، ووزّع في غزّة يومي 11 و12 ديسمبر 1987، وفي الضفة الغربية في 14 و15 الشهر نفسه. وأطلق البيان لفظ “الانتفاضة” على التظاهرات العارمة التي انطلقت. قال: “جاءت انتفاضة شعبنا المرابط في الأرض المحتلة رفضاً لكل الاحتلال وضغوطاته، ولتوقظ ضمائر اللاهثين وراء السّلام الهزيل، وراء المؤتمرات الدولية الفارغة”. وقد مضى وقت طويل حتى فرض المصطلح نفسه على الساحة السياسية، ودخل ميدان الصحافة العربية والأجنبية، بلفظة العربي، وكذلك دخل الموسوعات الأجنبية، وفرض نفسه، بلفظه العربي.

شهدت فلسطين انتفاضتين، انطلقت الأولى في 8 ديسمبر 1987، والثانية في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 حين اقتحم رئيس وزراء العدو الصهيوني، أرئيل شارون، المسجد الأقصى برفقة قوات من جيش الاحتلال، قائلا إن الحرم القدسي سيبقى منطقة إسرائيلية، حيث تصدّى له الفلسطينيون، فاندلعت انتفاضة ثانية من القدس لتنتقل إلى مدن الضفة الغربية وقطاع غزّة وسميّت كذلك “انتفاضة الأقصى”.

ومنذ انتهت الانتفاضة الثانية، جرى حديث مكثف وفي غير مناسبة في الإعلامين، العربي والأجنبي، عن موعد الانتفاضة الثالثة، حتى أن بعضهم أطلق المصطلح أكثر من مرّة على ثورات أو هبّات فلسطينية شعبية ثارت بين حين وآخر، كانتفاضة السكاكين التي كانت فيها السكين هي السائد أداة مقاومة. ولكن يبدو أنه لم يتم الاتفاق على وقوع الانتفاضة الثالثة فعلا، وهو ما يبعث على اعتقادنا أن هذا الشكل من المقاومة الفلسطينية تجاوزه الزمن. ويمكننا أن نقول باطمئنان إن المقاومة الفلسطينية اليوم تعيش مرحلة ما بعد الانتفاض، بعدما بدا أن هناك اتفاقا بين جميع الأطراف “المتورّطة” بالشأن الفلسطيني محليا وإقليميا ودوليا بمنع قيام هذه الانتفاضة وبكل السبل، الأمر الذي دفع الشعب الفلسطيني إلى اشتقاق نمط جديد من المقاومة، لم يتم الاتفاق على اسم واحد له. ويبدو أن هذا النمط من المقاومة بات يسبّب حالة من التهديد الحقيقي للأمن الشخصي للمستوطنين وللأمن الصهيوني عموما في كامل الأراضي الفلسطينية، فحسب الجهات الأمنية للاحتلال؛ ارتفع نطاق الإنذارات في الضفة الغربية المحتلة إلى “أرقام لا حصر لها”. وبحسب مصدر عسكري تحدّث لموقع واللا العبري، يتركّز النشاط الرئيسي لقوات جيش الاحتلال في مناطق نابلس وجنين والخليل، إلا أن حركة النشطاء الفلسطينيين لا تقتصر على هذه المناطق، ولكنها الأكثر التهابا، لأسبابٍ عدة، ربما بسبب اعتداءات المستوطنين المتكرّرة في هذه المناطق.

خلال السنوات الأخيرة، وبعد انسداد الأفق السياسي أمام أي مسار تفاوضي، وبسبب رفض الحكومات الصهيونية المتعاقبة أي خيار سياسي، واقتصار حركتها على الخيار الأمني، بدا أن هناك تناغما غير مسبوق وبشكل علني بينها وبين النظام العربي الرسمي، في منع قيام الانتفاضة الثالثة وبشتّى السبل، مرّة عن طريق إفراط الاحتلال في استعمال القوّة، ومرّة بمطاردة روح المقاومة حتى في البلاد العربية، عبر تجريمها وإدراجها في قوائم الإرهاب، ومرّة عبر محاولات بائسة لتحسين الوضع الاقتصادي للفلسطينيين تحت الاحتلال، مع شطب خيار الدولة الفلسطينية المستقلّة بشكل كامل من قاموس السياسة العبري والعربي والدولي، رغم ما يرد من بيانات وتصريحات عربية تستعمل هذا المصطلح بشكلٍ اعتيادي فارغ من أي مضمون، وهو ما تعمد إليه بعض دول الغرب في بياناتها، خصوصا حين تتحدّث عمّا يسمّى “حلّ الدولتين”، وهو خيار يعلم الجميع أنه عفا عليه الزمن. وفي ظلّ هذا الواقع، اشتقّ الفلسطيني نمط مقاومته الجديدة، متجاوزا نمط الانتفاضة التقليدي، عبر تشكيل مجموعات أو “كتائب” مسلحة، تنقض على المحتلين في الوقت المناسب، فضلا عن تحوّل أجيال من الفلسطينيين ممن ولدوا بعد الانتفاضة الثانية إلى مشروعات شهادة، بعد أن أصبحت ثقافة الاستشهاد من مكوّنات العقل الجمعي لهذا الجيل.

يعرف الفلسطيني أن هذا الشكل من المقاومة لن يحرّر فلسطين بالضربة القاضية، لكنه يأمل عبر مقاومته هذه أن يبقي شعلة رفض الاحتلال مشتعلة. وربما يعتقد بعضهم أن عملية التحرير تأتي بتراكم النقاط. وفي المحصلة، لم يعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين مريحا ومربحا، كما كان في وقتٍ ما، بل أصبح مصدر قلق وجودي للكيان، خصوصا وأنه يترافق مع التهديد الدائم له من المقاومة المسلحة المنظمّة في غزّة ولبنان تحديدا، مع ما يعيشه الكيان من انشطار وتشظّ داخلي على خلفية محاولات تحويله إلى دولة شريعة لا دولة مدنية، بعد وثوب القوى اليمينية المتطرّفة إلى سدّة الحكم.

مقالات ذات صلة