رصيف بايدن مشروع هندسة أميركية

غازي دحمان

حرير- على هامش مقترح الرئيس الأميركي، جو بايدن، إنشاء رصيف عائم في غزّة لإيصال المساعدات الإغاثية إلى السكان، سادت فرضيتان متناقضتان، الأولى تقول إن واشنطن تريد ترميم رصيدها السياسي الذي انهار في المنطقة جراء دعمها المطلق لإسرائيل، عسكريا ودبلوماسيا، في حرب الإبادة التي تشنّها على أهل غزّة، والثانية أن الهدف من إنشاء الرصيف، أو الميناء، تنفيذ مخطّط إسرائيلي، قديم جديد، يقوم على تفريغ غزّة من سكانها.

وقد زاد ترحيب إسرائيل بالمشروع من وزن صحّة الفرضتين السابقتين، مع أنه ليس ثمّة مؤشّرات حقيقية داعمة لهاتين الفرضيتين، ذلك لو أن أميركا أرادت بالفعل تحسين صورتها في العالم العربي لفرضت على إسرائيل وتفيد كل المعطيات بأنها قادرة على ذلك، وقف الحرب مباشرة، على الأقل بعد الشهر الأول، وبعد أن قتلت إسرائيل من الفلسطينيين أضعاف ما قتلته “حماس” من الإسرائيليين. أما فرضية تفريغ غزّة، حتى وإن رغب قادة التطرف الإسرائيلي بذلك، فالبيئتان الإقليمية والدولية غير مستعدّتين لمثل هذا الطرح، والذي من شأن تنفيذه إحداث توتّرات عميقة في المنطقة، إن لم تؤدّ إلى الحرب، فإنها ستشكّل خطراً على الاستقرار الإقليمي في شكله الذي استقرّ في مرحلة ما بعد الربيع العربي والثورات المضادّة، ما يعنيه ذلك من تأثير على الأنظمة الحليفة لواشنطن في المنطقة…

يستدعي التحليل الصحيح لأهداف هذا المشروع ودوافعه قراءة ما يفكّر به قادة أميركا، الذين من المؤكّد أنهم ينظرون إلى المشهد من جميع زواياه، وبعقلٍ بارد، ومثلما من الخطأ افتراض وجود حسن نياتٍ عند القادة الأميركيين، من الخطأ أيضا اعتقاد أن حرب غزّة تمثل أزمة بالنسبة لواشنطن، رغم الصورة التي تؤكّد انخراطها في صراعٍ يمتد من البحر الأحمر إلى العراق وسورية، فأميركا بقوتها الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية تستطيع تحويل المخاطر البادية على السطح إلى مكاسب حقيقية لها.

واشنطن هي من أرادت لهذه الحرب أن تطول كل هذه المدّة، فإسرائيل لم تكن جاهزة لحرب تدوم أكثر من شهر، واشنطن هي التي هيّأت جسرا جويا لنقل الأسلحة والذخائر وزوّدت إسرائيل بالمستشارين والخبراء، وتأمين كل الظروف الملائمة لها، كما أن إسرائيل كانت لديها مخاوف من احتمال اندلاع حروبٍ على الجبهات الأخرى، غير أن واشنطن، بأساطيلها التي سارعت الحضور إلى المنطقة، وقنواتها السرّية التي فتحتها مع إيران وغيرها لمنع أي إمكانية لمضايقة إسرائيل في عمليّتها في غزّة، وواشنطن نفسها تحاول الآن اختراع حالة غريبةٍ تتمثل بإغاثة السكّان في غزّة عبر رصيفها المقترح، وفي الوقت نفسه، منح إسرائيل فرصة الاستمرار بقتلهم، الأمر الذي يطرح السؤال عن سر هذا التناقض الأميركي الفظيع؟

تهدف واشنطن من هذه التوليفة إلى تحقيق غايتين: الضغط على الدول العربية التي تتخبّط في حالة فظيعة من القلق خوفا على استقرار الأوضاع لديها والرضوخ للخيارات الأميركية، حيث إن واشنطن تتعامل مع الحرب في غزّة أنها جزء من صراع جيوسياسي تخوضه على المستوى الدولي ضد الصين التي استطاعت، أخيرا، اختراق معاقل أميركا التقليدية في الشرق الأوسط، وشجّعت دول المنطقة على انتهاج سياساتٍ تحوّطيه عبر تنويع علاقاتها وإيجاد مساحة للمناورة في مواجهة أميركا. وتتمثل الغاية الثانية بالضغط على الفلسطينيين أنفسهم ليستنفدوا جميع خياراتهم في هذا الصراع، ويقبلوا الحلول التي تطرحها أميركا.

على ذلك، تعمل أميركا على توظيف هذه الحرب في صناعتها لشرق أوسط، طالما جرى الحديث عنه سابقاً، لتتحوَل حرب غزّة إلى مشروع جيوسياسي يرتبط بالتحوّلات العالمية والصراعات الجيوسياسية التي أصبحت العنوان الأساسي للتنافس العالمي في هذه المرحلة، ويجري التعبير عنها عبر إدارة المشاريع اللوجستية في المنطقة، مثل الممر الهندي ومشروع الحزام والطريق، وميناء غزّة أحدث هذه المشاريع.

الملاحظ في هذا السياق أن مشروع الرصيف الأميركي في غزة يرتبط بخط بحري مركزه قبرص، وتفسير ذلك وجود خطّة لنزع غزّة، ولاحقاً بقية فلسطين، عن إطارها العربي وإخراج الدول العربية، ومصر تحديداً، من معادلات التأثير في فلسطين، وهذا سيستتبعه تهيئة بيئة فلسطينية متقبّلة لهذا التطوّر، بدءا من غزّة التي يوجد قرار غربي بإنهاء سلطة “حماس” فيها والتجهيز لنخبةٍ جديدة، وتراهن هذه الأطراف على أن استمرار الحرب مدىً زمنياً أطول سيتيح تظهير النخبة الجديدة. وفي الضفة الغربية، ثمّة توجّه لإنهاء السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي، والتي أثبتت التطوّرات أنها لا تصلح لإدارة المرحلة المقبلة، والتي تحتاج بدرجة كبيرة إلى طبقة تكنوقراط تدير المرحلة بحساباتٍ اقتصادية صرفة بعيداً عن التسيس والأدلجة.

ووفق ذلك، يجب تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية، وقضية مجموعة من البشر يحتاجون للعمل والإغاثة وتسيير شؤونهم الذاتية أكثر من كونها قضية سياسية، بما يعنيه ذلك من استمرار الحديث عن حقّ تقرير المصير ودوام الصراع العسكري، لا يتطلّب الأمر سوى التلاعب بالمعطيات الأساسية لإحداث تحويلٍ جذريٍّ في البيئة الفلسطينية.

ميناء (أو رصيف) بايدن، مشروع بحدّ ذاته، وليس حدثاً وقتياً لإنجاز مهمّة محدّدة، هندسة جديدة للقضية الفلسطينية وللمنطقة بالعموم، مثلما أصبحت الحرب على غزّة مشروعا لإدارة الترتيبات الأميركية في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة